بقلم د/سماح عزازي
أعودُ للكتابةِ كما أهوى… كما أعرفني
أكتبُ بوردِ القلبِ… بياسمينِ الروحِ
أكتبُ بدمٍ باردٍ لا يخشى الاحتراق،
وألقي بنفسي على دروبِ الهوى،
فما عادَ في الدُنيا ما يشغلني عني.
أخيطُ من حبلِ الوتينِ قصيدةً،
وأعودُ من غيبتي بأبهى حضور.
أستنشِقُ عطري المفضَّل،
وأُسامرُ قمري في سكونِ الليل،
لا أملُّ، لا أتعبُ، لا أجزع، لا أحنّ لخيباتٍ راحلة،
فالقمحُ في روحي يثمر…
والسنونُ العجافُ التي أذبلت وردي،
ها هي تنحني لصباحي المُشرق.
وأيامٌ خوالي أتت من الأفق
تحملُ حقيبةَ أملٍ لا يشيخ.
يا أنا… يا أنا… كم أحبكِ
وعذرًا حينَ خذلتُ ظني بكِ
فقد وجدتُني حين ضيّعتني،
وجدتُني… وأصبح الكونُ لي!
شواطئ عمري تفيضُ بحبّي لي
وبحرُ الكتابةِ صديقي،
أشربُ قهوتي على مهلٍ،
وأقرأ فنجاني كما أشتهي… لا كما يُملى عليّ.
أحكي قصتي الجديدة
وأُرسِلُ رسالتي إلى البعيد،
فيندُبها الحمامُ الزاجلُ باسمِ الانتظار.
سطوري تتراقصُ كأنها أنغامُ موسيقى هادئة،
وأعودُ من رحلتي في صحراءٍ لحقتُ فيها السراب،
لأجدني في واحةِ يقين…
وها أنا… أعودُ من جديد،
امرأةٌ عنيدة… لا تنتظر
وأعودُ من جديد…
ألمُّ بعثرات الوقت في كفي
وأُرممُ ما هدمته السنونُ
بأناشيد الصبرِ،
بأغنياتٍ كنتُ أخبئها في أعماقي
ليومِ اللقاءِ مع نفسي.
أُزيّن نهاري بابتسامةٍ
تليقُ بامرأةٍ عبرت العتمةَ حافية،
ولم تسأل الطريق عن وجهته.
فكلّ الدروب كانت داخلي
وكلّ الجهات أنا…
أكتبني كما أُحب، لا كما يشتهي الغير
أخيطُ جُرحي بخيطِ العزيمة
وأعلّق ألمي على مشجبِ الحكمة،
فما عادَ البكاء يُغريني،
ولا الحنينُ يملكُ مفاتيحَ قلبي.
أنفضُ عن كتفيّ غبارَ الأمس،
وأكنسُ من روحي آثارَ من لا يستحق،
أكنسُهم كأوراقِ خريفٍ عابرة،
وأفتحُ نوافذَ العمر
لشمسٍ تستحقُّ أن تُدعى صباحًا.
وأعود…
أُصافحُ ظلّي،
أشكرُ مرآتي لأنها صبرت،
وأحضنُ ذاتي كما لم يفعل أحد،
فأنا المستحقةُ لكلِّ هذا الحب،
وأنا النبضُ حين تخذلُ الحياةُ قلوبَ الآخرين.
في صوتي موسيقى
وفي خطوتي رقصُ الحياة،
وفي عينيّ… حكايةٌ لم تُكتَب بعد
لكنها تُروى،
تُروى حين أبتسم رغم كلّ شيء.
وها أنا أعود…
أُعلنها على الملأ:
ما انكسرتُ… بل نضجت
ما انتهيتُ… بل ابتدأت
ما كنتُ هشّةً يومًا
أنا التي لا تنتظر…
وأعودُ من جديد...
أخلعُ أثوابَ الصمت،
وأرتدي وشاحَ الكلامِ الذي يشبهني.
أفتحُ دفتري العتيق
وأرسمُ عليه وجهي الحقيقي،
ذاك الذي لا يُشبه الظلّ،
ولا يُشبه أحدًا... سواي.
أزرعُ حروفي في حقولِ الضوء،
وأنتظرُ منها سنابلَ دهشة
تعيدُ ترتيبَ الحواس.
لا أكتبُ لأُدهشَ أحدًا،
بل لأُدهشَني...
أنا التي نسيتُني طويلًا
ثمّ وجدْتُني فجأةً في المرآة،
أُشبه الغيمَ حين يتذكّر المطر.
وأعودُ،
وفي صوتي نبرةُ امرأةٍ
عبرتْ المدى وحدها
وركضتْ خلفَ الحلم،
حتى إذا عطشتْ
شربتْ من نهرِ الصبرِ
كأسًا من ضوء!
أنا التي لا تسأل الطريقَ عن المعنى،
المعنى يسكنني يمشي بي...
ويُغنّي معي أغنيةً قديمة
عن انتصارِ الأنثى على وجعها،
عن نجاةِ الطفلةِ التي لم يحمها أحد
فحمتْ نفسها بالكلمة.
أعودُ،
وبين أصابعي مفاتيحُ كثيرة
لا تفتحُ سوى أبوابٍ تؤدي إليّ،
وأمام ناظريّ مرايا لا تعكسُ سواي
كما أحبني… لا كما أحبوني!
وأعودُ...
أُحبُّني أكثر،
وأعتذرُ من قلبي لأنني نسيتُ
أنه لم يكن يومًا ضعيفًا،
بل فقط… كان نقيًّا أكثر مما يجب.
أنا الآن امرأة
تصنعُ فجرها بيديها،
وتخيطُ من لياليها عباءةَ مجدٍ
تليقُ بمن لم تنتظر شيئًا
إلا الضوء الذي يسكنها!
وأعودُ…
أُمسك زمامَ دهشتي،
أروضُ الريح إن هبّتْ لتعبثَ بي،
فما عدتُ ريشةً في مهبِّ أحد،
ولا ظلًّا يُطفئه غياب.
أعودُ…
وبداخلي أنثى تعرفُ كيف تولدُ من موتها،
وكيف تُغنّي للعتمة حتى تُضيء!
أقفُ بثباتِ السُّنبلة،
تُنحني للعاصفة لكنّها لا تنكسر،
وأبتسم…
كأنني لم أذق مرارةَ البكاءِ من قبل،
كأنني ابنةُ الفرح منذ أول نزيف.
أنثى… لا تركض خلف ظلٍّ،
ولا تُغلق بابًا يُغلق وجهَها،
ولا تنتظرُ أحدًا ليُمسك يدها…
تمسك قلبها، وتكمل!
أنا القادمةُ من خيباتٍ نبتَ فيها الوعي،
من قصصٍ لم تُكتب نهاياتُها بعد
لأني قرّرتُ أن أكتبها كما أُريد،
بيدي، بحرفي، بحدسي الأنثويّ الذي لا يُخيب.
أعود…
ولستُ كما كنتُ،
أنا التي نفضتُ غبارَ التوقعات،
وغسلتُ روحي من وهمِ الاحتياج،
وصنعتُ لنفسي مجدًا لا يُشبه سواي.
فمن يشبهني؟
أنا التي أحبتني كما أنا،
وقبلتني بجُرحي… لا برُتوشي،
وصفحتُ عني كلَّ لحظاتِ التردد،
وعن كل مرةٍ صمتُّ فيها
حين كان يجب أن أصرخ.
أعود...
بقلبٍ أكبر،
وبعينٍ ترى النورَ ولو تسلّل من شقٍّ صغير،
أنا التي تعلّمتُ أن الهزيمةَ درس،
وأن الفقدَ أحيانًا هدية،
وأن الانتظارَ موتٌ…
وأن الحياةَ تبدأ حين أختارني أولًا!
وأعودُ من جديد...
لا ألوي على شيء
ولا أطلبُ من العمرِ اعتذارًا،
كلُّ ما مرّ... كان درسًا،
وكلُّ انكسارٍ... كان بوابةً لصحوتي.
أعودُ…
وفي صوتي لغةٌ جديدة،
لا تُجيدُ التوسُّل،
ولا تحفظُ أغاني الترقّب،
لغةٌ نُحتت من صدق التجربة
وصمتِ الليالي الطويلة.
أعودُ…
بخطوةٍ تُشبه الموجَ حين يرفض السكون،
تُشبه الغيمةَ حين تختارُ أن تُمطر،
تُشبهني… حين لا أشبهُ أحدًا.
أعودُ…
وفي قلبي زهرٌ لا يذبل،
وفي عينيّ برقُ الحالمات،
وفي كفيّ مفاتيحُ الحياة
التي صنعتُها من صبرٍ،
ومن قصائد لم يكتبها سواي.
أنا الآن أنثى…
تعرفُ كيف تنبتُ من رمادِها وردًا،
وكيف تصنعُ من وجعِها جسرًا،
وكيف تمشي، مرفوعةَ الرأس،
في طرقٍ لم يسبقها إليها أحد.
أنا التي لا تنتظرُ!
أنا التي تعودُ كلّ مرة
أقوى… أبهى… أصدق…
وأُولدُ من جديد
كما يليقُ بأنثى…
تكتبُ نفسها بيدها.
وتحبُّ أن تكون… نقطة السطر، لا الهامش.
التعليقات الأخيرة