add image adstop
News photo

واقعة تبكي لها القلوب… حين اختار المربي الرحمة على الحسابات الضيقة

 

 

بقلم د/سماح عزازي 

 

مدينة تيارت تقع في شمال غرب الجزائر، وهي عاصمة ولاية تيارت. تبعد حوالي 300 كيلومتر جنوب غرب العاصمة الجزائر . تقع المدينة على سفوح جبال فرندة، وهي منطقة ذات طابع جبلي وسهلي، وتُعد من أقدم المدن الجزائرية، ذات تاريخ عريق يمتد إلى العصور الرومانية والبربرية. كما كانت تيارت مقرًا تاريخيًا لدولة بني رستم الإباضية في القرن الثامن الميلادي، وقد لعبت دورًا مهمًا في التاريخ الإسلامي للمنطقة. وتتميز تيارت بموقعها الاستراتيجي بين عدة ولايات، وبنشاطها الزراعي، وخصوصًا في تربية الخيول، إذ تُعرف بلقب "عاصمة الخيول" في الجزائر.

تيارت – الإثنين 16 يونيو 2025

 

في مواسم الامتحانات، لا تُقاس الدقائق فقط بالزمن، بل بالأحلام المعلّقة على خيط من الرجاء، وبالقلوب التي تخفق في انتظار لحظة قد تغيّر مصير العمر. بين جدران المراكز، حيث يُغلق الباب مع دقات الساعة، تتقاطع حكاياتٌ من التعب، والطموح، والخوف، وأحيانًا... من الرحمة.

وفي مدينة "تيارت"، وقعت حكاية ليست كغيرها، حكاية تروي كيف تصير الرحمة أسمى من القوانين، وكيف يكون المربي الحقيقي سندًا للحلم لا حارسًا للعقاب.

 

في لحظة من لحظات الامتحان الفاصلة، حيث تتوقف عقارب الزمن على مشارف المصير، وتُحبس الأنفاس بين سؤال وقدَر، حدثت واقعة تقشعر لها الأبدان، وترقّ لها القلوب، في أحد مراكز امتحانات شهادة البكالوريا بمدينة تيارت، لتخلّد في الذاكرة درسًا نبيلاً في الإنسانية، والتربية، والمروءة.

 

كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الزوال، الصمت يلفّ أروقة المركز كالكفن، وأصوات أوراق الهوية تُقلب على الطاولات. داخل القاعات، جلس المترشحون وقد تهيّأوا لمنازلة الأقلام، وكلهم توتر وانتظار، بينما الحراس يجولون بأعينهم المتفحصة، ووجوههم مزيج من الجدية والصرامة.

 

وفجأة، شقّ هذا الصمت صوت إداري متوتر يخاطب رئيس المركز: – "سيدي، مترشحة واحدة لم تلتحق بعد بمكانها".

 

تبدلت ملامح الرجل، رفع بصره إلى ساعته: الثالثة تماما. لم يتردد، بل اتخذ قراره النبيل:

"أجّلوا توزيع المواضيع".

 

طلب من الحارس أن يترقب، أن يحدّق في الطريق الخالي، علّها تظهر، تلك التي تأخرت عن موعد مصيري قد لا يُعوّض.

 

تمرّ الدقائق مثقلةً بالتوتر. الثالثة وعشر دقائق. الثالثة وثلاث عشرة دقيقة... ولا أثر. يسود الوجوم. يقترب أحد الملاحظين متسائلًا: – "هل من مانع يستدعي هذا التأخير؟"

 

لكن رئيس المركز ظل صامتًا، إلا أن القلق كان يفترش قسمات وجهه. أخيرًا، يُصدر القرار الحاسم: "أغلقوا الباب".

 

نفذ الحارس الأمر ببطء، وهو لا يزال يتلفت يمنة ويسرة. الرئيس يتجه إلى جرس المؤسسة ليعلن بدء الامتحان، وفي اللحظة ذاتها…

 

دويٌّ مفاجئ يهز الأبواب، طرقٌ شديد، كأنه استغاثة أخيرة من قلب أنهكه السباق مع الوقت.

 

يصرخ رئيس المركز بأعلى صوته:

– "توقفوا! لا توزعوا شيئًا!"

ويندفع راكضًا نحو الباب، يفتحه بنفسه، فإذا بها... تلميذة، مرهقة، دامعة، بالكاد تقوى على التنفس، وقد اختلط العرق بالدموع على وجنتيها.

 

لم تسأل شيئًا، ولم تقل شيئًا، لكنه قرأ في عينيها كل شيء. أشار لها بلطف أن تدخل، رافقها بنفسه إلى قاعتها، همس لها بكلمات لم تسمعها سوى قلوب الأمهات، قدّم لها الماء، وجلست ترتجف... لكن الأمل عاد.

 

هذه لم تكن لحظة عابرة. لقد كانت لحظة انتصار الإنسان في قلب المربي. ففي زمن تُقاس فيه الأمور باللوائح والصرامة، اختار هذا الرجل أن ينحاز للرحمة، أن يفتح الباب بدل أن يغلقه في وجه حلم، أن ينقذ سنين تعبٍ وكفاحٍ من أن تتبخر لأجل دقائق.

 

لهذا الرجل نقول: شكرًا.

شكرًا لأنك فهمت أن التربية ليست قوانين جافة، بل روح تُهدي، وعين تراقب بإنصاف، وقلب ينبض بالرحمة.

في زمن الامتحانات، أنت كنت هو الجواب الصحيح.

 

ليست التربية أن تُحسن عدّ الدقائق، بل أن تُحسن احتضان اللحظات الفارقة.

في زمن تتسابق فيه بعض الأيادي لتغلق الأبواب، وقف هذا المربي ليبقيها مفتوحة أمام حلم تأخر عن الموعد، لكنه لم يتأخر عن الحق.

ومن قلب مدينة تيارت، كتب هذا الرجل درسًا خالدًا في معنى الإنسانية.

فليُرفع له القبّعة، ولتسجل الحكاية:

هنا كان إنسان، اختار أن يكون الجسر بين الخوف والأمل.

التعليقات الأخيرة

اترك تعليقًا

الأعلى