بقلم د/سماح عزازي
منذ فجر الثورة الإيرانية في 1979، وبينما كانت المنطقة تعيش فصولًا من النزاع والأمل، وُلد صراع جديد ذو أبعاد استراتيجية وأيديولوجية بين إيران و"إسرائيل"، ليشكل أحد أعقد المشاهد السياسية في الشرق الأوسط. هذا الصراع، الذي لا يقتصر على الحدود الجغرافية، بل يتداخل مع الهويات والتاريخ والدين، يتجاوز لعبة القوة العسكرية ليصبح مسألة بقاء لأطرافه. يبرز هذا التوتر اليوم أكثر من أي وقت مضى، مع تصاعد حدة التهديدات، وظهور ملامح جديدة لتحولات خطيرة في المعادلة الإقليمية والعالمية. في هذه السطور، نرصد تطورات هذا الصراع، وندرس مآلاته المستقبلية في ظل التحديات العالمية والمحلية.
أما بعد…
فإنّ الشرق الأوسط لا يعرف السكون، إذ تتوالى فصولُ التوتر فيه كما لو أنّها نبوءة جغرافية لا تنتهي. ومن قلب هذا اللهيب، يبرز صراع طهران وتل أبيب، لا بوصفه خلافًا حدوديًّا أو نزاعًا مرحليًّا، بل بوصفه تصادمًا مركزيًّا بين مشروعين متضادين: أحدهما يرتكز على الهيمنة واستباق التهديد، والآخر على فكرة "الصبر الاستراتيجي" حتى موعد الانفجار المدروس.
لقد عرفت المنطقة في الأشهر الأخيرة تصعيدًا غير مسبوق بين إيران و"إسرائيل"، تجاوز ما كان يُعرف بـ"الحرب الرمادية"، ليقترب من حافة الانفجار المباشر. وهكذا صار السؤال المطروح: هل تغيّرت معادلات الردع؟ وهل نحن على أعتاب مواجهة شاملة؟
أولًا:
الجذور الأيديولوجية… حين يشتبك الدين بالتاريخ
إنّ جوهر الصراع بين إيران و"إسرائيل" ليس أمنيًّا فحسب، بل هو أيديولوجي وعقائدي. فإيران، منذ ثورتها عام 1979، تبنّت موقفًا عدائيًّا صريحًا تجاه الكيان الصهيوني، وأعلنت "زوال إسرائيل" كأحد ثوابت خطابها السياسي. بالمقابل، تنظر "تل أبيب" إلى طهران باعتبارها "التهديد الوجودي الأكبر"، خاصة بعد تمركز أذرعها العسكرية في محيط الكيان.
لقد أصبح هذا الصراع امتدادًا لتاريخ طويل من التوجس، تُغذّيه المرويات التوراتية، والنزعة المهدوية من جهة، وسردية "المقاومة الشاملة" من جهة مقابلة. إنه صراعٌ تتقاطع فيه الجغرافيا مع العقيدة، والتاريخ مع الاستراتيجية.
ثانيًا:
الجغرافيا العسكرية… حين تنطق الحدود بالنار
لم يعد النزاع قائمًا على "الحرب بالوكالة" فقط، بل تمدّد إلى اشتباك فعلي:
اغتيالات إسرائيلية لعلماء نوويين إيرانيين،
ضربات جوية مكثفة على منشآت وقواعد تابعة للحرس الثوري في سوريا،
هجمات سيبرانية متبادلة طالت المفاعلات والمنشآت الحساسة.
التحول الأبرز تمثّل في ضربة طهران المباشرة نحو العمق الإسرائيلي، لأول مرة منذ تأسيس الكيان. لقد أطلقت إيران صواريخ ومسيرات من داخل أراضيها، معلنةً بذلك نهاية عهد "الرد بالواسطة". هذه السابقة أعادت رسم خطوط النار وحدود الردع، ورسّخت ما بات يُعرف في الأدبيات العسكرية بـ"توازن الألم".
ثالثًا:
الحسابات الدولية… حين تتحوّل العواصم إلى جبهات ناعمة
لم تعد هذه المواجهة شأنًا ثنائيًّا. فالعواصم الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، ومن بكين إلى باريس، تراقب وتحسب كل تفصيل:
الولايات المتحدة تحاول إدارة المعادلة الدقيقة بين دعم "إسرائيل" وحماية مصالحها الإقليمية، وسط استحقاقات انتخابية داخلية لا تحتمل مغامرة عسكرية جديدة.
روسيا تسعى لترسيخ نفوذها، من خلال التوازن بين حلفائها في طهران وتفاهماتها الأمنية مع تل أبيب، خصوصًا في سوريا.
الصين، بعينها الاقتصادية، تراقب هذا الصراع خشية تعكير صفو مشاريعها في الخليج وآسيا الوسطى، وتسعى إلى تخفيف التوتر.
أما العواصم العربية، فقد باتت تدرك أنّ سياسة الحياد لم تعد مجدية، وأنّ أي اشتعال إقليمي لن يستثني أحدًا من نيرانه.
رابعًا:
النووي الإيراني… السلاح الذي لم يُولد بعد
إنّ الشبح النووي الإيراني يُعدّ أحد أبرز دوافع التصعيد الإسرائيلي. فطهران التي رفعت مستوى تخصيب اليورانيوم إلى مستويات غير مسبوقة، باتت على بُعد خطوات من التحوّل إلى "دولة على العتبة النووية".
"إسرائيل" ترى في هذا التحوّل خطرًا وجوديًّا، لذلك تلوّح دائمًا بالخيار العسكري. لكنّ هذا الخيار، رغم تكراره في الخطاب الإعلامي، محكوم بتعقيدات الردود المتوقعة، وتكلفة الحرب في ظل التمدد الإيراني الإقليمي.
خامسًا:
احتمالات الحرب والسلام… قراءة في المشهد المرتقب
رغم التصعيد العلني، لا يبدو أنّ الطرفين معنيان بخوض حرب شاملة في الوقت الراهن، وذلك للأسباب التالية:
الكلفة الباهظة للحرب في ظل أوضاع اقتصادية متأزمة (في إسرائيل وإيران على السواء).
إدراك الأطراف الدولية أن أي تصعيد مفتوح سيؤدي إلى تفجير الإقليم برمّته.
هشاشة الجبهات الداخلية، خصوصًا داخل الكيان الصهيوني، في ظل تصدعات سياسية وانقسامات مجتمعية.
وعليه، فإنّ السيناريو الأقرب هو استمرار الصراع ضمن "هامش الاشتباك المحدود"، أي: ضربات محسوبة، وردود محسوبة، دون انزلاق إلى حرب كبرى.
حين يتكلم الشرق الأوسط بلغة البارود
أما بعد…
فلم يعد الشرق الأوسط ساحة نزاع تقليدي، بل أصبح مركزًا لصراع مشاريع وجودية. فإيران لم تعد تخفي طموحها في قيادة محور مقاومة يمتد من الخليج إلى المتوسط، و"إسرائيل" لم تعد تملك تفوقًا مطلقًا يردع كل تهديد.
إنّنا نعيش في مرحلة انتقالية، حيث تُعاد كتابة معادلات الردع، وتُختبر حدود القوة. قد لا تندلع الحرب غدًا، لكنها لم تعد بعيدة. وما بين صبر طهران ونيران تل أبيب، يبقى الإقليم رهينة التوازن الهش، في انتظار رصاصة البداية… أو مفاجأة العقل.
"الحروب الكبرى تبدأ غالبًا من صغائر التفاصيل… لا من العناوين العريضة."
"حين يختلط العقائدي بالنووي، لا يكون الردع مجرّد خيار… بل ضرورة وجودية."
"إسرائيل لم تعد وحدها في السماء… وطهران خرجت من عباءة الوكالة إلى المباشرة."
"الصراع لم يعد على حدود، بل على سردية من سيكتب التاريخ القادم للمنطقة."
إذن، يبقى صراع إيران و"إسرائيل" أحد أكثر الصراعات الإقليمية تعقيدًا، يحمل في طياته مفاتيح التحولات الكبرى في الشرق الأوسط. مع كل تطور ميداني أو تصعيد سياسي، يزداد مشهد هذا الصراع وضوحًا في طبيعته الاستراتيجية المعقدة، بين من يسعى لحماية وجوده، ومن يطمح إلى ترسيخ مكانته. وبين التحديات السياسية والعسكرية التي يواجهها كل طرف، يبقى السؤال الأكبر: إلى أين سيقودنا هذا الصراع؟ هل سيظل رهينًا بآليات الردع المتبادل، أم أننا على أعتاب انفجار جديد يعيد رسم خارطة المنطقة؟ إنّ المستقبل وحده هو من سيكشف لنا الإجابة، ولكن يبقى أن كل طرف في هذه اللعبة قد اختار موقعه، وكل خيار له كلفته.
التعليقات الأخيرة