add image adstop
News photo

حلم إسرائيل يتهاوى... والفلسطينيون يكتبون أنبل فصول التاريخ

 

 

بقلم د/سماح عزازي

 

"ولا تحسبنّ الله غافلًا عما يعمل الظالمون،

 إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار"

(سورة إبراهيم – الآية 42)

 

حين تتكلم الحقيقة من قلب العدو، فإنها تكتسب وزنًا مضاعفًا، وتصبح أقرب إلى شهادة تاريخية لا تمحوها المراوغات السياسية ولا التلاعبات الإعلامية.

 

لم تكن افتتاحية صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية مجرد مقال رأي، بل صرخة اعتراف صادمة بأن المشروع الصهيوني بات يتهاوى تحت ضربات الحقيقة والمقاومة، وأن الفلسطيني الذي وُصف لعقود بـ"الإرهابي"، بات اليوم –في نظر خصمه– "أنبل شعوب الأرض".

في زمن يعجّ بالتزييف، جاءت كلمات العدو لتُظهر الحق كما هو: شعبٌ محتلّ، لكنه لا يساوم، لا ينسى، ولا ينكسر

 

في لحظة فارقة من تاريخ الصراع، حين تتهاوى الأقنعة وتتكشف الحقائق، خرجت افتتاحية صحيفة "هآرتس" العبرية –إحدى أبرز الصحف الإسرائيلية– لتقول ما لم يجرؤ غيرها على الاعتراف به: "الفلسطينيون هم أنبل شعوب الأرض في الدفاع عن أوطانهم". عنوانٌ لم يكن مجرد جملة عابرة أو محاولة يائسة لتبرئة الذات، بل إعلان صريح بانهيار السردية الصهيونية، وانكشاف زيف المشروع الذي قام على الدم والتهجير والسرقة باسم الدين والتاريخ.

 

الاعتراف جاء من عمق المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية التي طالما مجّدت صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، وروّجت لحلم "إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات". اليوم، تقر هذه المؤسسة بأن المشروع قد فشل أخلاقيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، وأن الفلسطيني، رغم القهر، ما زال واقفًا، رابط الجأش، ينهض من بين الركام، ويمدّ جسده درعًا للأقصى، ويقابل دبابات الاحتلال بحجر، وصواريخ الطائرات بقلب لا يعرف الانكسار.

 

افتتاحية الصحيفة لم تكن مجرد سرد لخسائر الحرب، بل صرخة عارٍ من الداخل، اعتراف مؤلم بأن الكيان الذي أنفق أكثر من 912 مليون دولار كل ثلاثة أيام على حربه ضد غزة، لا يستطيع إطفاء نار انتفاضة أشعلها أصحاب الأرض. الحديث لم يتوقف عند تكاليف الطائرات وصواريخ الباتريوت والذخائر والوقود، بل امتد إلى انهيار الاقتصاد، وتوقف التجارة، وشلل البورصة، وتعطل الزراعة والصناعة، بل حتى نفوق الدواجن في مزارع الاحتلال بملايين الدولارات، في مشهد يعكس حجم الانهيار الكامل في البنية الاستراتيجية للدولة.

 

الأكثر إثارة، أن الصحيفة تعترف بوضوح: "نحن من أشعلنا الحرب، لكننا لا نتحكم في مجراها، ولسنا من سينهيها". فها هي المدن الفلسطينية داخل الخط الأخضر –التي ظنها الاحتلال فقدت هويتها– تنتفض، تهتف، تقاوم، وتعيد تشكيل الخريطة الوطنية، لتقول بصوت واحد: "نحن فلسطينيون، ولن نكون يومًا أدوات بيد المحتل".

 

هذا التحول أربك القادة الصهاينة الذين أيقنوا متأخرين أن حساباتهم كانت أوهامًا، وأن المشروع الصهيوني الذي بُني على هويات مفككة وجنسيات متعددة، لا يمكنه الصمود أمام هوية فلسطينية متجذرة في الأرض، منغرسة في التاريخ، ومرتبطة برباط العقيدة والشهادة.

 

ثم يأتي المقطع الأخطر، حين يعترف كاتب المقال –وهو يهودي– قائلاً:

"لو كنا حقًّا أصحاب هذه الأرض، لما رأينا هذا الكم الهائل من اليهود يهرعون إلى المطارات مع أول صاروخ يُطلق من غزة. نحن مَن زرع فيهم الخوف، ومَن رسّخ فيهم الهشاشة. أما الفلسطيني، فقد ذاق مرارة القتل والسجن والحصار، وواجهنا بكل ما نملك من ترسانة فكرية وإعلامية وأخلاقية، أغرقناه بالمخدرات، وسمّمنا عقول أبنائه بموجات من الإلحاد والفساد والتشكيك... ومع ذلك، ما زال ذاك الشاب المدمن يصرخ في وجهنا "الله أكبر" ويمضي يدافع عن أقصاه، وكأنه إمامٌ فقيه في الدين".

 

أيّ هزيمة تلك التي تهز وجدان المحتل في أعماقه، حتى ليعترف أن من بين المدمنين والضعفاء في غزة من يفوقه ثباتًا وإيمانًا وارتباطًا بالأرض والحق؟!

 

وللمفارقة، يضيف المقال: "لم تجرؤ جيوش بكامل عتادها على ما أقدمت عليه المقاومة الفلسطينية في أيام معدودات، فأسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر قد سقطت. صار يُقتل ويُؤسر، وسقطت معه هيبة إسرائيل، ووصلت صواريخ المقاومة إلى قلب تل أبيب".

 

أما عن الحل، فلم يجد الكاتب سوى خيارٍ واحد: أن نعترف بفلسطين، ونقبل قيام دولة جارة لنا، تعيش معنا بسلام. لا حبًّا في السلام، بل لأننا نحتاج لسنوات إضافية على قيد البقاء، على قيد الكذب.

 

هكذا، تختتم "هآرتس" اعترافها المرير بحقيقة يعرفها الفلسطيني منذ أول رصاصة، وأول شهيد، وأول غصن زيتون تكسّر تحت جنازير المحتل:

"حتى لو بقينا ألف عام، فسيأتي اليوم الذي ندفع فيه ثمن كل شيء. الفلسطيني سيعود، لا محالة، وعلى صهوة جواده، سيدخل تل أبيب".

 

هنيئًا لشعبٍ لا تُطفأ جذوة نضاله، ولا تضعف ذاكرته، 

ولا تخور عزيمته.

وهنيئًا للتاريخ الذي يشهد أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة… وأن بين الركام يولد الأمل، وتُبعث الأمة من تحت الرماد.

 

المراجع والمصادر:

1. "هآرتس" – افتتاحية نادرة (ترجمتها عدد من الوكالات العربية، وتداولت مواقع إخبارية مقتطفات منها، منها "الجزيرة نت" و"عربي بوست"، نقلاً عن صحيفة هآرتس العبرية – مايو ويونيو 2024).

 

2. تكاليف الحرب على غزة: تقرير مركز "موشيه دايان للدراسات الأمنية" (2024) أشار إلى أن إسرائيل أنفقت نحو 3 مليارات دولار خلال 10 أيام فقط من الحرب، شاملة التكاليف اللوجستية والعسكرية والاقتصادية.

 

3. تحليلات انسحاب اليهود من إسرائيل: وفق تقرير نشره "هآرتس" و"تايمز أوف إسرائيل" أواخر 2023، فإن معدل الطلب على الهجرة بين الإسرائيليين ازداد بنسبة 47% خلال أوقات الحرب.

 

4. مقالات رأي إسرائيلية عن فشل الردع: راجع تحليل الصحفي الإسرائيلي "جدعون ليفي" في "هآرتس"، 2023، الذي أقر بفقدان إسرائيل قدرة الردع في غزة، وفشلها الأخلاقي أمام مشهد الطفولة الفلسطينية المذبوحة.

 

5. بيانات حول أداء المقاومة: تقارير "القسام" و"سرايا القدس" و"مركز المعلومات الفلسطيني" أكدت وصول مئات الصواريخ إلى العمق الإسرائيلي، بما في ذلك تل أبيب، خلال ساعات قليلة من بدء المواجهات.

 

6. ردود الفعل العربية داخل الخط الأخضر: مظاهرات حيفا، اللد، الناصرة، ويافا، وثقتها وكالات أنباء عالمية مثل "رويترز" و"أسوشيتد برس" في تقارير مصورة عن التضامن الفلسطيني الشامل.

 

إنها لحظة نادرة، حين يعترف المحتل بعجزه، ويقرّ المجرم بعدالة القضية التي حاربها لعقود. لكنها ليست نهاية الصراع، بل بدايته الحقيقية...

بداية سقوط الأقنعة، وولادة الوعي، وتجذّر الرواية الأصلية في ضمير العالم.

الفلسطيني لا ينتظر شهادة من مغتصب، لكنه يعلم أن الزمن –وحتى الصحف العبرية– بدأت تُدرك أن الأرض لا تموت، وأن شعوبها حين تنتفض، تكتب التاريخ من جديد.

أما "حلم إسرائيل"، الذي بُني على الدم والإنكار، فقد بدأ بالفعل ينهار… صفحة بعد صفحة، وصاروخًا بعد آخر.

التعليقات الأخيرة

اترك تعليقًا

الأعلى