بقلم د/سماح عزازي
إيران تردّ على العدوان الإسرائيلي
وتكتب فصلًا جديدًا من التحدي الإقليمي
في جغرافيا تتنفس البارود وتزدهر على حواف الخطر، لا تندلع الحروب فجأة، بل تُراكمها السنوات، وتوقد شرارتها الحسابات الخاطئة. فجر يوم الجمعة 13 يونيو 2025 لم يكن حدثًا عابرًا في رزنامة الشرق الأوسط، بل نقطة تحوّل جسّد انفجارًا لاحتقانات تراكمت طويلًا بين طهران وتل أبيب، وجرّت خلفها واشنطن إلى ساحة مواجهة تبدو فيها الحسابات أكثر تعقيدًا من أن تُختزل في بيانات رسمية.
العدوان الإسرائيلي على العمق الإيراني لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل رسالة مزدوجة: اختبار لإرادة إيران، واستعراض لقوة إسرائيل. لكن الرد الإيراني المباشر، والواسع النطاق، لم يترك للرمزية مكانًا، بل أطلق صفارات الإنذار في الداخل الإسرائيلي، وفي عواصم القرار الدولي على حد سواء.
"في الشرق الأوسط، لا تنام البنادق طويلاً، ولا تصمت الصفارات طويلاً، لأن الجغرافيا هنا لا تُكتب بالمداد فقط... بل بالأشلاء."
في فجر يوم الجمعة، الثالث عشر من يونيو 2025، أفاقت منطقة الشرق الأوسط على وقع زلزال عسكري مدوٍ، إثر تنفيذ إسرائيل ضربة جوية وصفت بأنها الأضخم منذ سنوات، استهدفت عمق الأراضي الإيرانية، في تطور ينذر بمرحلة مفصلية من التصعيد الإقليمي. وبين الردع والرد، وبين الاستفزاز والاستباق، اختارت طهران أن تردّ سريعًا وبصورة مباشرة، لتدشن بذلك مرحلة غير مسبوقة من الصراع المكشوف بين قوتين إقليميتين طالما خاضتا حروبهما في الظل وعلى أراضي الغير.
العدوان الإسرائيلي قراءة أولية في الدوافع والأهداف
جاءت الضربة الجوية الإسرائيلية – التي طالت منشآت استراتيجية في نطنز وفوردو ومقار الحرس الثوري – تتويجًا لتصعيد متزايد في الخطاب بين الطرفين، لاسيما مع اشتداد التوتر حول الملف النووي الإيراني. وقد بررت تل أبيب العملية بأنها "إجراء وقائي لضمان أمنها القومي"، بينما اعتبر مراقبون أن توقيت الضربة جاء في لحظة ضعف للمفاوضات الدولية، ومحاولة لاستثمار الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل في ظل الإدارة الجمهورية الحالية.
عملية "العقاب الشديد": الرد الإيراني المباشر وغير المسبوق
في ردٍ مدروس وسريع، أطلقت إيران عملية سمتها "العقاب الشديد"، وبدأت خلالها بإطلاق أكثر من 150 صاروخًا باليستيًا وعشرات الطائرات المسيّرة نحو أهداف داخل إسرائيل، استهدفت مواقع حساسة في تل أبيب والقدس ورمات غان. في هذا الرد، خرجت إيران عن نمطها المعتاد في استخدام أذرعها غير المباشرة، وأعلنت مسؤوليتها الكاملة عن العملية، ما يعكس تحوّلًا استراتيجيًا في قواعد الاشتباك.
وبالرغم من نجاح منظومة "القبة الحديدية" الإسرائيلية، مدعومة بدفاعات أمريكية متقدمة، في اعتراض جزء كبير من هذه الهجمات، إلا أن الضربة الإيرانية ألحقت أضرارًا مادية مباشرة، وخلّفت إصابات في صفوف المدنيين الإسرائيليين، ما وضع حكومة نتنياهو في موقف داخلي حرج، وسط اتهامات بالتقليل من شأن التهديد الإيراني.
بين تل أبيب وطهران مواقف متشددة وخطاب متصلب
خرج المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، ليصف العدوان الإسرائيلي بأنه "انتهاك سافر لسيادة دولة ذات سيادة"، معتبرًا أن "الصمت لم يعد خيارًا، وأن زمن الصبر قد ولّى". أما الرئيس الإيراني مسعود بيزشيان، فقد توعّد بأن "الرد القاسي" لن يكون الأخير، وأن "أمن تل أبيب لن يكون بمنأى عن الردع الإيراني في المستقبل"، في لهجة تصعيدية تؤشر إلى استعداد طهران لمواجهة طويلة الأمد.
في المقابل، شدّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أن "إسرائيل تحتفظ بحق الدفاع عن نفسها بكل الوسائل"، مضيفًا أن "الجيش يملك تفويضًا كاملًا لإنهاء التهديد الإيراني"، في تأكيد على نية التصعيد واستمرار العمليات إن لزم الأمر.
الولايات المتحدة دعم غير مشروط، ولكن بحذر
كانت واشنطن أول من عبّر عن موقفها بعد بدء العملية، إذ أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن بلاده "لم تشارك مباشرة في الضربة"، لكنها "دعمت الدفاع الإسرائيلي ضد الهجوم الإيراني". وحذّر ترامب إيران من مغبة الاستمرار في "المقامرة بالاستقرار الإقليمي"، داعيًا إلى العودة إلى طاولة التفاوض، في خطاب يعكس تناقضًا بين الرغبة في الحسم العسكري من جهة، والدعوة إلى ضبط النفس من جهة أخرى.
وفي الوقت ذاته، دفعت واشنطن بتعزيزات عسكرية إلى قواعدها في الخليج، وأصدرت تعليمات بإعادة تموضع بعض قواتها لحمايتها من أي ردود إيرانية محتملة على التواجد الأمريكي في المنطقة.
التحليل الاستراتيجي ماذا بعد؟
إن هذا الاشتباك المباشر بين إسرائيل وإيران ليس مجرد حادثة أمنية عابرة، بل يشكّل تحوّلًا بنيويًا في طبيعة الصراع الإقليمي، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل المعادلات الأمنية في الشرق الأوسط:
1. هل كسرت إيران حاجز "الردع السلبي"؟
يبدو أن طهران أرادت إيصال رسالة واضحة: إنها لم تعد تعتمد فقط على "وكلائها" في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بل باتت جاهزة للمواجهة المباشرة، باستخدام منظومات صاروخية باليستية متطورة، ما يعكس تطورًا نوعيًا في قدراتها العسكرية والتقنية.
2. هل تستطيع إسرائيل تحمّل تبعات التصعيد؟
رغم تفوقها التكنولوجي والدعم الأمريكي، تبدو إسرائيل أمام تحدٍّ حقيقي في الداخل، حيث تشهد مدنها توترًا شعبيًا واسعًا، وارتفاعًا في نبرة القلق الاقتصادي، لا سيما بعد الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية وارتفاع مؤشرات البورصة إلى اللون الأحمر.
3. واشنطن حليفٌ داعم أم لاعب مرتبك؟
تواصل الولايات المتحدة انتهاج سياسة "الدعم دون الانخراط المباشر"، لكن تزايد التوترات واحتمال استهداف قواعدها في العراق أو الخليج قد يجبرها على تغيير استراتيجيتها، خصوصًا إذا ما تحول الصراع إلى حرب إقليمية مفتوحة تشمل أطرافًا غير متوقعة.
4. الاقتصاد العالمي على حافة الهاوية
انعكس التصعيد سريعًا على الأسواق العالمية، حيث قفزت أسعار النفط بنسبة 6% في أقل من 24 ساعة، وارتفع الذهب إلى أعلى مستوياته منذ عام 2020، وسط قلق المستثمرين من اتساع نطاق الحرب وتأثيرها على إمدادات الطاقة في الخليج.
في ظل هذه المواجهة، تتكرّس مقولة قديمة أعادها التصعيد إلى الواجهة: الشرق الأوسط لا يحتمل الفراغ، ومن يملأه أولًا يحكم قواعد اللعبة
الشرق الأوسط أمام مفترق خطير
ما حدث فجر الجمعة ليس حادثًا معزولًا، بل هو عنوان لمرحلة جديدة يتقدّم فيها الصدام المباشر على الدبلوماسية المؤجلة. فإيران، التي تلعب على حافة الصبر الاستراتيجي، أظهرت أنها لم تعد رهينة الدفاع فقط، بل قادرة على المبادرة والهجوم. وإسرائيل، التي اعتادت على المبادرة العسكرية، وجدت نفسها في موقف دفاعي غير مسبوق.
أما الولايات المتحدة، فقد بدأت تفقد شيئًا من هيبتها التقليدية كضامن للتهدئة، بينما العالم يراقب بقلق مشوب بالترقب. فإما أن تستفيق العواصم الكبرى وتتحرك لإنقاذ المنطقة من الانفجار الكامل، أو أن نكون على أعتاب صيفٍ سياسيٍّ ساخن، قد تعيد فيه البارود رسم خرائط النفوذ من جديد.
تشير تقارير "واشنطن بوست" و"الجارديان" إلى أن الضربات الإيرانية كانت مخططة سلفًا ضمن بنك أهداف أعد مسبقًا، وهو ما يرجّح فرضية أن الرد الإيراني لم يكن ارتجاليًا، بل محسوبًا.
البيانات العسكرية الإسرائيلية قالت إن أكثر من 70% من الطائرات والصواريخ الإيرانية تم اعتراضها، لكن المراقبين يشيرون إلى أن حجم الرد وحده يعدّ خرقًا للخطوط الحمراء التقليدية.
ما بين صواريخ طهران وطائرات تل أبيب، ترتسم خارطة جديدة للصراع الإقليمي، تخلّت فيها الأطراف عن الحذر التقليدي، ودخلت منطقة انعدام الوزن السياسي. رد إيران ليس مجرد عمل عسكري، بل إعلانٌ واضح بأن زمن الردع الصامت قد انتهى، وأن قواعد الاشتباك ستُعاد كتابتها بالنار،
لا بالدبلوماسية. أما إسرائيل، فوجدت نفسها في موقع الدفاع، لأول مرة منذ سنوات، أمام خصم لا يخشى المواجهة المباشرة.
"الحروب لا تبدأ عندما تطلق الطائرات صواريخها، بل حين تعجز السياسة عن لجم الغرور" – هنري كيسنجر.
ويبقى السؤال معلقًا في فضاء مشبع برائحة البارود: هل ما جرى هو ذروة التصعيد؟ أم أننا فقط في بدايات سلسلة انفجارات متتالية ستغيّر وجه الشرق الأوسط؟
المنطقة تقف اليوم على شفا هاوية، والقرار ليس فقط بيد من يملك السلاح، بل أيضًا بيد من يمتلك القدرة على كبح الغرور... قبل أن تكتب النار آخر فصول هذه المعركة.
التعليقات الأخيرة