بقلم/ د. سماح عزازي
حين لا تُقاس الأعمار بالأرقام، بل بالبصمة التي تتركها الأرواح، تصبح الخمسون موعدًا لا مع الذبول... بل مع الازدهار. ففي زمنٍ يُخيف فيه العمر بعض النساء، أقف انا على أعتاب الخمسين بثبات الزهر في الريح، وبابتسامة من يعرف قيمته بعد طول مسير. ليست حكايتها عن سنٍ يُعدّ، بل عن نضج يُحتفى به... عن أنوثة ناضجة، وروح تعرف متى تُصافح الحياة، ومتى تتركها تمر.
الخمسون ليست مجرد رقم يُسجَّل في الهوية، بل ما تكتبه التجربة على جدران القلب. تمامًا كما قال ماركيز: "ليس العمر ما يُكتب في الهوية، بل ما تكتبه التجربة على جدران القلب." وعلى هذا الجدار كتبت امرأة قصتها بصبرٍ وأناقة.
في هذا العمر، تتفتح المرأة كما لو أنها وردة تأخرت عمدًا لتزهر حين يقلّ الزيف وتصفو النظرة. حيث لا يعلو الصوت إلا ليحمل حكمة، ولا تلمع العين إلا حين ترى بوضوح، ولا ينبض القلب إلا لما يستحق. هي المرحلة التي نكتشف فيها أن "أجمل الأعمار ليست تلك التي مضت، بل التي نضجت فينا"، كما عبّرت أحلام مستغانمي ببساطة وصدق.
على عتبة الخمسين لا أقف لأعدّ ما فات، بل لأحتفي بما نضج. لا أنحني للسنين، بل أرفع رأسي لما تركته فيّ من نور. لم أأتِ إلى هذه العتبة مثقلة بالخوف، بل مثقلة بالامتنان... امتنان لتلك الطفلة التي كبرت، ولتلك المرأة التي قاومت، ولتلك الروح التي ما زالت تتفتح كأغنية صباح.
صار الصمت اختيارًا لا عجزًا، والبُعد حكمة لا هروبًا، والرضا تاجًا من نور. تعلّمت أن أثمن ما أملكه هو سكينتي، وأنّ العطاء لا يعني الفقد، وأن الجمال الحقيقي لا يُقاس بالملامح، بل بعمق الروح ونظافة السريرة. فالمرأة في هذا العمر، كما وصفها نزار قباني، "تشبه القصيدة في تمام وزنها، والمقطوعة الموسيقية حين تكتمل نغمتها الأخيرة."
خضت المعارك بشرف، لا لأنتصر على أحد، بل لأنتصر لنفسي. أدركت أن الصمت أبلغ من الكلمات، وأن النور لا يُطفأ حين يُهدى، بل يزداد سطوعًا. أحببت، وخُذلت، وسرت في دروب الوحدة والامتلاء، بكيت حين كان البكاء نجاة، وضحكت حين صارت الضحكة مقاومة. واليوم... لا أبحث عن الكمال، بل عن السلام.
الخمسون؟ ليست عُمرًا يُحسب، بل حالة تُعاش. هي النقطة التي تتعانق فيها الطفلة التي كنت، والمرأة التي صرت، في رقصة ناعمة على نغم الحياة. وجهي لا يشي بسنّي، بل يروي حكاية صبر ونقاء. ملامحي ليست مرآة زمن، بل مرآة روح لم يخذلها العمر، ولم تهزمها الأعوام.
علمتني السنوات أن "العمر لا يُقاس بما خسرناه، بل بما نضجنا فيه"، كما قال الرومي. لذلك، فإن كل ندبة كانت درسًا، وكل دمعة كانت بداية ضوء.
وإن سألوني عن سرّ إشراقي، قلت: لأنه إشراق امرأة لم تسمح للظلام أن يسكن قلبها. أنا لا أحتفل بخمسين عامًا، بل بخمسين ربيعًا من الحب، والعطاء، والصبر، والانتصار على ما كان يمكن أن يُطفئني. أنا امرأة على عتبة عمر جديد... ولست أدخله إلا بكل عنفوان النضج، ورقّة التجربة، وجمال الروح حين تنضج وتزداد إشراقًا.
أدركت أن "كل لحظة نضج، هي انتصار على الزمن"، كما همس باولو كويلو ذات تأمل. فالنضج لا يُقاس بعدد الأعوام، بل بما بقي في القلب من نور، وما انطفأ من وهم.
على أعتاب الخمسين، لا أودّع شيئًا... بل أستقبل كلّ شيء. أستقبل نفسي كما يليق بها، ناضجة ناعمة، كأن العمر منحني مفاتيح الحكمة بلطف، وكأن كل سنة مرّت كانت وردة تُزهر في داخلي. لم أعد أركض خلف الوقت، بل أمشي معه بخطى واثقة، أبتسم له، ويبتسم لي.
العمر، كما علمتني الحياة، ليس ما يُكتب في الأوراق... بل ما يُزهر في القلب، وما يُروى من حكايات في العيون. وعيناي ما زالتا تحلمان... وقلبي ما زال يتفتح كأن العمر ربيع لا ينتهي.
فيا أيها العمر القادم...
تعال، فقلبي ما زال نابضًا، وقلمي ما زال حيًا،
وحكايتي... لم تنتهِ بعد.
التعليقات الأخيرة