بقلم د/سماح عزازي
في غزة، لا يبدأ النهار بشروق الشمس، بل بصوت انفجارٍ يوقظ المدينة من حلمٍ لم يكتمل. هناك، لا يُقاس العمر بالسنوات، بل بعدد الليالي التي نجوتَ فيها من موتٍ معلق بين السماء والأرض. في غزة، يتفتح الورد على رائحة البارود، وتغني الأمهات لأطفالهن تحت ضوء القذائف، وتصبح النجوم مجرد ثقوب في سماءٍ مثقوبة بالصواريخ.
إنها الأرض التي تعلّمك أن الحياة يمكن أن تزهر حتى فوق الركام، وأن للدمع لونًا أبهى إذا امتزج بالكبرياء، وأن للضعف قوة حين يتحول إلى مقاومة. هنا، حيث كل نافذة مفتوحة تُطل على مشهد الحرب، وحيث كل حجر يروي حكاية، وحيث الموت يمر كل ليلة لكنه لا يستطيع أن يقتلع الروح.
غزة ليست مجرد مدينة تحت الحصار، إنها جرحٌ مفتوح في ضمير العالم، ومرآة تعكس حقيقة الإنسانية: إمّا أن تكون حرًا أمام الظلم، أو صامتًا أمام جريمة تُرتكب على الهواء مباشرة.
في غزة، لا يُقاس الوقت بالساعات والدقائق، بل بعدد الغارات التي تقطع الليل، وعدد الشهداء الذين يصعدون مع الفجر. هناك، حيث السماء ليست غطاءً آمنًا بل منصّة للموت، وحيث البحر لا يحمل مراكب الصيادين بقدر ما يعكس نار الصواريخ، يعيش الناس بين قصفين، ويتنفسون على إيقاع صفارات الإنذار.
مطر القنابل في غزة ليس عابرًا كسحابة شتاء، بل مطرٌ من نار ينهال على البيوت كما لو أن السماء نفسها قد أعلنت الحرب. الشوارع التي كانت تعجّ بالأطفال، تحوّلت إلى ممرات صامتة للجرحى، والمآذن التي كانت تدعو للصلاة، صارت تصدح بنداءات الاستغاثة. هنا، كل نافذة مفتوحة هي احتمال لشظية، وكل باب مغلق هو وهم الأمان.
لكن الصمت… صمت العالم، هو القنبلة الأكبر. على بعد آلاف الكيلومترات من الركام، يجلس الساسة على مقاعدهم الوثيرة، يتداولون "بيانات القلق" و"دعوات ضبط النفس"، وكأن الدم الفلسطيني مجرّد خبر عابر على شريط الأخبار. بعضهم يتحدث عن "حق الدفاع عن النفس" في وجه أطفال يحملون الحجارة، بينما تتساقط القذائف على المستشفيات والمدارس.
غزة لا تنتظر عدسات العالم لتوثّق مأساتها، فهي تحفظ وجوه شهدائها في ذاكرة البحر والرمل، وتكتب أسماءهم على جدران البيوت التي سقطت. غزة تعرف أن العالم قد يشيح بوجهه، لكنّ التاريخ لا يفعل. والتاريخ، حين يكتب، لا يكتفي بتسجيل أرقام الضحايا، بل يسجّل من وقف صامتًا، ومن باع ضميره على طاولة السياسة.
ومع ذلك، بين ركام البيوت، هناك يد صغيرة ترفع علماً، وهناك أمّ تُخفي دمعتها لتبتسم لطفلها، وهناك شيخ يصلّي على أمل أن يسمع الله صوت غزة قبل أن يسمعه العالم.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل روح تقاتل كي تبقى حيّة في مواجهة موتٍ معلن، وحكاية تروي للعالم أن الكرامة لا تُقصف، وأن الحرية لا تموت تحت الأنقاض.
ومهما طال ليل القصف، سيأتي فجر تقول فيه غزة للعالم: هنا، وسط مطر القنابل، ولدت شمس الحرية.
وغزة، رغم مطر القنابل، ما زالت تقف. ليست واقفة لأنها لا تشعر بالألم، بل لأنها تعرف أن الانكسار موتٌ أبدي، وأن البقاء واقفة هو معركتها الأسمى. كل حجر سقط من بيت، صار شاهدًا على ظلمٍ لا يسقط بالتقادم. وكل دمعة أُمّ، تحولت إلى وصية في عنق العالم.
لقد علّمت غزة الجميع أن القوة ليست في ترسانة السلاح، بل في ترسانة الإرادة، وأن الحصار لا يقتل مدينة تعرف كيف تحيا بالكرامة، حتى ولو كان الخبز قليلًا والماء شحيحًا.
سيأتي يوم، وربما بعيد، لكنّه قادم، تُفتح فيه النوافذ على نسيم البحر بدل رائحة الدخان، ويعود الأطفال إلى مدارسهم حاملين دفاتر لا تحمل آثار الشظايا. يومها، سيقرأ العالم اسم غزة لا في تقارير الحروب، بل في قصائد النصر.
أما حتى ذلك الحين، فستظل غزة تكتب للعالم بلغتها الخاصة: لغة الصمود، لغة الدم الذي لا يُساوَم، ولغة الحقيقة التي لا يمحوها صمت العالم. لأن غزة تعرف أن الشمس، مهما طال ليل القصف، لا بد أن تشرق.
التعليقات الأخيرة