بقلم د/ سماح عزازي
في كل مكان جلس فيه قلبٌ منتظر، هناك أثر لا تمحوه السنوات. ليس في الصوت، ولا في الخطى، بل في الكرسي الذي ظلّ خاليًا… شاهِدًا على وعدٍ لم يُكتمل، وحنينٍ لم يخفت.هذه ليست قصة حبّ عادي… بل حكاية امرأة لم تهزمها الوحدة، امرأة جلست كل يوم أمام الحياة،وقالت لها:
"سأنتظر… حتى لو لم يأتِ."
في ركنٍ صغير من المقهى القديم، كان الكرسي نفسه ينتظره كل يوم. نفس الطاولة، نفس الكوب، نفس النظرات المرتبكة من النادل الذي حفظ العادة دون أن يفهم السبب. في تمام الخامسة مساءً، تدخل هي، تجلس على المقعد المواجه للشارع، تطلب قهوتها المعتادة، وتترك الكرسي الآخر فارغًا.
دائمًا.
مرت سنوات، تغيّرت الوجوه، تغيرت الموسيقى، تغيرت
حتى أسماء العاملين… لكنها لم تتغير. هي كما هي أنيقة رغم البساطة، هادئة رغم العاصفة في عينيها.
يسألها النادل الجديد ذات مرة — ببراءة المتطفل:
"هل تنتظرين أحدًا؟" فتبتسم بهدوءٍ لا يُفسَّر، وتردّ:
"كنتُ… ثم صرتُ فقط أحترم الموعد."
لم تكن تحب الشفقة، ولا الأحاديث العابرة التي تشبه ورق المناديل… تُستخدم مرة، وتُرمى. كانت تؤمن أن بعض الانتظارات ليست ضعفًا، بل وفاء. وأن الكراسي الفارغة أحيانًا تكون أكثر صدقًا من أولئك الذين ملأوها يومًا ورحلوا.
هو كان حبّها الوحيد.
شابًا وسيماً يقرأ الشعر بنبرة عميقة، يحمل في صوته دفءَ الكتب، وفي عينيه خوف الذين أحبوا مرّة ولم يعرفوا كيف يُفلتون. كانا يلتقيان هناك، في المقهى نفسه، كل خميس.
تجلس هي قبل الموعد بدقائق، يجيء هو متأخرًا دائمًا بدقيقة أو اثنتين، يعتذر، وتضحك، ويبدأ العالم.
ثم في أحد الأيام… لم يأتِ. ظنته تأخر.
ثم قالت ربما نسي. ثم قالت قد يكون مريضًا.
ثم قالت ربما… رحل. لكنها لم تسأل أحدًا.
لم تتصل. لم تكتب. تركت لنفسها آخر خيط من الكرامة… وأبقت عليه الكرسي.
تزوّج الجميع، تغيّر الزمن، لكن الموعد لم يتغير.
كل خميس، في تمام الخامسة، كانت تأتي. تطلب القهوة.
وتنظر للباب. ثم إلى الكرسي الفارغ.
كأنها تقول له بصمت: "خذ وقتك… أنا لست في عجلة."
"تعرف؟ كل من جلس على الكرسي المقابل لي منذ ثلاثين عامًا كان طيفك. كل وجه مرّ أمامي… كنت أبحث فيه عن ملامحك، عن طريقة اعتذارك المعتادة، عن تلك الحركة السريعة بيدك حين تشرح شيئًا لا أفهمه. أراك في انعكاس زجاج المقهى، في دخان القهوة، في بقايا صوتٍ يخرج من مذياع قديم كنا نحبّه.
لم أغضب يومًا لأنك لم تأتِ…
الغضب يحتاج إلى توقع، وأنا منذ غيابك لا أتوقع من أحد شيئًا. لكنني كنت أفتقدك بصمت.
كأن أضع الكوب الثاني، لا ليُشرب، بل ليظلّ دافئًا كما كنت.
كأن أختار قميصي بعناية كل خميس، فقط لأشعر أنني ما زلتُ جديرة بلقائك، حتى لو كان وهمًا.
الناس يقولون إن الزمن يشفي…
لكنهم لا يعرفون أن بعض الانتظارات ليست جرحًا… بل نبض.
وأنني إن تركت هذا الكرسي يومًا، سأفقد آخر شيء يجعلني أصدق أن الحب يمكنه أن ينتظر… دون أن يموت."
وفي أحد الأيام، بعد ثلاثين سنة من الانتظار، سألها شاب كان يكتب رواية في الزاوية المقابلة:
"لماذا لا تجلسين في مكان آخر؟ تغيري المقعد على الأقل؟"
فقالت بابتسامة هادئة:
"لأن الحب حين يكون صادقًا… لا يغير مقعده حتى لو تأخر المسافر عن الوصول."
في كل مرة أجلس فيها أمام هذا الكرسي… لا أراه خاليًا.
أراه كما تركته ذات خميس بعيد، حين كنتُ أضحك على تأخرك، وأنت ترفع حاجبيك كأنك تُقسم أنك لن تتأخر في الأسبوع القادم… وكنت تفعل دائمًا.
لكنني كنت أحب تأخّرك.
كنتُ أحب لحظة انتظارك أكثر من مجيئك.
كنتُ أحب أن أجهّز الرد على عذرك الخيالي قبل أن تصل… وأن أحتفظ بابتسامتي لك وحدك.
الآن…
كل شيء ما زال كما كان:
المكان، الطاولة، شكل الفنجان…
إلا قلبي.
قلبي صار أكثر صمتًا، لكنه ما زال يربت على الكرسي الفارغ كل خميس، ويقول له: "لا بأس… تأخر كما تشاء.
أنا هنا، أمسك بزمام الذاكرة وحدي، وأحرس صورتك من التآكل." الناس يخشون الوحدة…
أما أنا، فأخشى فقط أن يأتي يوم أنظر فيه إلى هذا الكرسي… ولا أشعر بك.
ولذلك، لا أغيّره.
ولا أستبدلك.
ولا أبدّل موعدنا.
لأنك، رغم غيابك…
الشخص الوحيد الذي ما زال يحضرني كما كنتَ،
لا كما يريد الواقع أن أراك.
في ذلك المقهى، لم تكن تجلس امرأة مسنّة فقط…
بل كانت تجلس حكاية كاملة، عن امرأة لم تبكِ كثيرًا،
لكنها كانت تضع فنجانها دومًا في مكانه… وتترك الكرسي الثاني فارغًا، كأنها تؤمن أن بعض الغياب… لا يعني النهاية.
لم تكن تحجز المقعد له،
بل لذاكريتها معه… للحظة الجميلة التي لا تموت،
وإن رحل صاحبها. بعض الكراسي تبقى فارغة،
لأن قلوبنا رفضت أن تملأها بأيّ أحد…
ولأن الوفاء، في عالمٍ متغيّر، صار هو الجمال الذي لا يشيخ.
في ذلك المقهى… لم تكن تجلس امرأة عجوز،
بل كانت تجلس رسالة لم تُرسل…ولم تُنسَ.
التعليقات الأخيرة