بقلم د/ سماح عزازي
قصة عن الحنين، والذاكرة، والحُب الذي يبقى
في التفاصيل الصغيرة... حتى بعد الرحيل
هناك أشياء لا نشتاق إليها لأنها ثمينة… بل لأنها كانت تُشبه من نحب. رائحة طبق، أو ملمس ملعقة، أو حبة سكر ذائبة في حليب دافئ… تفاصيل صغيرة، لكنها وحدها تحفظ الذاكرة من التآكل. وهذه ليست حكاية عن رجل عاد من غربة، بل عن طفل يسكن جسده، ظلّ يبحث عن قلب أمّه… في طبق أرز باللبن.
كانت محطة الوصول تبعد دقائق قليلة، لكن قلبه سبق القطار بسنوات. عائدٌ من غربة طويلة، من شتاتٍ مدجّج بالصمت. عشر سنوات لم يزر فيها بيته. عشر سنوات وهو يقول: "العام القادم". لكن الأعوام كانت تمضي، وهو يراكم الذكريات المؤجّلة، والخوف من أن يعود فلا يجد أحدًا… أو أن يعود وقد تغيّر كل شيء.
لم يكن يخاف من الغياب قدر خوفه من التبدّل. أن يعود ذات مساء، فيجد المكان كما هو، لكن الدفء قد غادره. أن تكون الجدران على حالها، لكن النداء قد انطفأ.
في يده حقيبة جلدية باهتة، وعلى صدره لهفة ثقيلة.
كان أكثر ما يفكّر فيه — وسط ضجيج المقاعد والحقائب — ليس البيت، ولا الحي القديم… بل شيء بسيط جدًا:
كوب أرز باللبن، تصنعه أمّه حين يعود.
تضع فيه قليلًا من ماء الورد، وترشّ على وجهه قرفة بشكل قلب، وتبتسم كأنها تُطعمه طفولته لا طبقًا من الحلوى.
حين كان صغيرًا، كانت تقول له:
"الحاجة اللي فيها سُكّر… لازم يكون وراها قلب حنين."
ولم يكن يعرف يومًا أن تلك الجملة ستُطارده بعد سنوات… في المطارات، في المطاعم الباردة، في فناجين القهوة التي لا تشبه شيئًا من بيته.
ولطالما شعر أن أمّه تضع قلبها كله في ذلك الطبق.
حين وصل، كانت الشمس تغرب، وشارعهم كما هو… كأن الزمن توقّف في هذا الركن من المدينة.
خطا خطواته الأولى نحو البيت، أحسّ بأن الأرض تُناديه، وبأن رائحة خبزٍ قديم تخرج من الجدران نفسها.
طرق الباب بقلبٍ خائف… لم تُفتح.
استخدم مفتاحًا احتفظت به يداه رغم الغياب.
فتح… ودخل.
البيت كما هو. الستائر، الصور، الساعة القديمة التي لا تعمل.
لكن شيئًا ما ناقص. شيء لا يُشترى… ولا يُعوّض.
كأن الغبار نفسه كان يعرف أنه يجب أن يبقى في مكانه… حتى لا تُنسى الذاكرة.
الهواء كان أثقل… لا من الرطوبة، بل من الصمت.
في المطبخ، لم يكن هناك أرز باللبن.
كان هناك ورقة صغيرة، على طاولة الخشب المهترئة، كان يعرف هذا الخط… بحنانه المرتبك.خط امرأة لم تكتب كثيرًا، لكنها حين تكتب، تحضن كلماتها كأطفالها.
مكتوب فيها بخط أمّه:
"ولدي…
إن عدت ولم تجدني، فاعلم أنني انتظرتك كثيرًا.
لم أكن أعدّ الأيام… كنت أعدّ الملاعق التي سأضعها في طبقك.
أرز باللبن… على طريقتي.
فيه ماء ورد، وحنين، ورضا.
سامحني إن لم أستطع البقاء حتى نأكله معًا."
قرأ الرسالة، ولم يبكِ.
فتح الثلاجة، فوجد وعاء صغيرًا ملفوفًا بعناية. أرز باللبن.
مصنوع كما كان يحب. قليل السكر، قرفة بشكل قلب.
جلس على الطاولة، أمام الطبق، كما كان يفعل وهو صغير.
لكن الملعقة كانت ثقيلة. كأنها تحمل الغياب كله.
جلس أمام الطبق، ولم يتحرّك.
كانت الملعقة أمامه، وقلبه وراءه… خلف أبواب مغلقة بالزمن، خلف صوتٍ لا يسمعه أحد سواه. أغمض عينيه، فتدفّقت الروائح. ماء الورد… قرفة… وشيء آخر لا اسم له، لكنه يشبه حضنًا ظلّ يؤجّله العمر كله. كأن الأم حين ترحل، لا تأخذ جسدها فقط… بل تأخذ معها الطمأنينة التي لا تُستعار، والدفء الذي لا يُصطنع.
هو الآن رجل، يعرف كيف يضبط مواعيده، ويصمت في الاجتماعات، ويبتسم حين يجب أن يبتسم. لكنه لم يتعلّم بعد كيف يأكل وحيدًا… دون يدٍ تضع له السكر بمقدار الحب، لا بمقدار الملعقة. ارتجفت يده، لا من الجوع… بل من تلك الفجوة التي لا يملؤها طعام. تذكّر صوتها وهي تقول له:
"كُلّ يا حبيبي قبل ما يبرد… الحياة ملهاش طعم وهي باردة."
آه، يا أمّي…
برد كل شيء بعدك.
حتى الحلوى… صار مذاقها ناقصًا،
وكأنك كنتِ تضعين شيئًا لا يُكتب في الوصفة…
شعورٌ يذوب، ويُربّت، ويملأ القلب كأنك لم ترحلي.
هو لا يريد الطبق، ولا الطعم، هو فقط…يريدكِ أن تفتحي الباب مرة أخرى، وأن تنظري إليه كما كنتِ تفعلين حين يعود من المدرسة، بعينٍ فيها كل العالم.
نظر إلى الطبق طويلًا.
كأن قلبه يقف على حافته، خائفًا أن يغرق في لقمة واحدة.
لامس الملعقة برفق، ثم تراجع…كأنها يدها، وكأنه يخشى أن تُسقطه دمعة على حجر الذكرى. كان يسمع صوتها في المطبخ لا، لم يكن يتوهّم. الصوت لا يموت، فقط يختبئ بين الجدران، في الأدراج، في الأكواب المقلوبة، في الملاعق المرتبة كما كانت تفعل تمامًا. كل شيء كان كما تركته. إلا قلبه…
كان مُبعثرًا، يبحث عنها في بخار الحليب، وفي شكل القرفة، وفي رائحة الفانيليا التي ما زالت تُراوده مثل دعاء مؤجل.
"لو كنتِ هنا…"
همس بالكلمات، لكن صوته خنقه.كان يريد أن يقول لها ألف شيء: أنه ندم على كل عام أخّر فيه العودة، أنه اشتاق لكل لحظة كان يظنها عادية، أنه لم يجد امرأة تشبهها،
وأن قلبه – رغم الرجال الذين صارهم – ما زال طفلًا يمدّ يده بحثًا عن دفء لا يُشترى. وفي اللحظة التي غابت فيها كل الكلمات… كان الصمت يقول عنها أكثر.صوت الملعقة في الطبق، حين غاصت أخيرًا في قلب الأرز،كان يشبه طرقًا على باب لا يُفتح…وكان هو الطفل الذي ما زال ينتظر أن تُناديه أمّه: "تعال يا حبيبي… الأرز باللبن استوى."
لم يكن الطبق دافئًا… لكنه كان نابضًا. كل لقمةٍ منه كانت تذوب في فمه… وتستقر في صدره كأنها تعيد له نبضًا فقده منذ سنوات.
هو الآن رجل ، عاش في بلاد كثيرة، وأكل من مطابخ لا تُحصى… لكن هذا الطبق الوحيد الذي جعله يشعر أنه طفلٌ…
يبحث عن حضنٍ في فمٍ من سُكّر. ليس كل طعام يُؤكل من أجل الجوع. بعضه يُؤكل ليُطفئ في القلب نار الفقد.
وبعضه، يُؤكل كي نعرف أننا ما زلنا بشرًا… وأن الذاكرة لا تُنسى.
لم يعد الصمت مُخيفًا… بل صار مألوفًا. فكل ما تبقّى له منها، كان يهمس دون صوت… ويطبطب على قلبه بملعقة.
في بيتٍ خالٍ، على طاولةٍ صامتة،
كان يجلس ابنٌ…
يأكل آخر طبقٍ أعدّته أمّه،
وفي قلبه…
كان يتمنى لو طال الطبق أكثر،
فربما معها…
كانت الحياة ستعود لقلبه لقمةً واحدة أخرى.
لم تكن الملعقة ما يهتزّ في يده… بل قلبه.
ولم تكن القرفة على وجه الطبق… بل وجه أمّه حين كانت تبتسم دون مناسبة.
الأمهات لا يرحلن فعلاً…
إنهن فقط يتركن خلفهن أشياء بسيطة،
قادرة أن تُربّت على أرواحنا كلما اشتدّ الغياب.
وفي ذلك اليوم، لم يأكل ليمتلئ…
بل أكل كي لا ينهار.
التعليقات الأخيرة