بقلم د/سماح عزازي
في زمنٍ تتعطّش فيه الشعوب للفرح، وفي لحظة كان يُفترض أن تُخلّد في ذاكرة الرياضة الجزائرية كعنوان للإنجاز، خطّت المأساة سطورها الثقيلة على أرض ملعب 5 يوليو. فبين هتافات الانتصار وأهازيج الولاء، انشطر القلب الوطني على وقع كارثةٍ لم تكن في الحسبان. مشهدٌ تجمّع فيه المجد والحزن في آنٍ واحد، حين هوى المدرج وسقط معه شباب عشقوا ناديهم حتى الشهادة. إنها لحظة فارقة… بين الفرح الموعود والفقد الجارح.
سقوط مدرج أولتراس "حب وعقلية المناصر" يلقي بظلاله على فرحة التتويج بلقب الدوري في مشهد مأساوي حوّل أفراح التتويج إلى لحظة حداد وذهول، شهد ملعب 5 يوليو الأولمبي مساء أمس حادثة سقوط المدرج العلوي المخصص لجماهير أولتراس "حب وعقلية المناصر"، الفصيل الأكثر وفاءً ودعماً لنادي مولودية الجزائر، وذلك خلال الجولة الختامية من منافسات الدوري الجزائري لكرة القدم.
الحادث الأليم وقع قبيل انطلاق مراسم الاحتفال بتتويج الفريق بلقب الدوري، الذي طال انتظاره بعد موسمٍ مثاليّ على الصعيد الرياضي، مما دفع الآلاف من المناصرين للاحتشاد في مدرجات الملعب التاريخي. غير أن لحظة السقوط المفاجئة لجزء من المدرج العلوي، والذي كان مكتظًا بالجماهير المتحمسة، حولت أهازيج النصر إلى صرخات رعب واستغاثة.
تحول الاحتفال إلى مأتم
وبحسب شهود عيان ولقطات موثقة من داخل الملعب، فإن انهيار الجزء العلوي من المدرج جاء بشكل مفاجئ وسريع، ما أدى إلى سقوط العشرات من المشجعين من ارتفاعٍ شاهق. وسادت حالة من الفوضى والذعر، فيما هرعت الفرق الطبية إلى موقع الحادث، وسط محاولات حثيثة لإجلاء المصابين ونقلهم على الفور إلى المستشفيات القريبة.
وأفادت مصادر طبية أولية بوقوع وفيات مؤكدة، إلى جانب عددٍ كبير من الإصابات، بعضها في حالات حرجة، مما استدعى إعلان حالة طوارئ في مستشفيات العاصمة الجزائرية. ولا تزال الجهات المختصة تواصل أعمال الإنقاذ والبحث، في حين تم فتح تحقيق عاجل للوقوف على أسباب الحادث، وتحديد المسؤوليات.
الوزارة تتدخل والفريق يعلن الحداد
وفي أول رد فعل رسمي، أعلنت وزارة الشباب والرياضة الجزائرية تعليق كافة الفعاليات الرياضية والاحتفالية المرتبطة بالمباراة الختامية، إلى حين استكمال التحقيقات وبيان حصيلة الضحايا بشكل رسمي. كما أعربت الوزارة، في بيان مقتضب، عن حزنها العميق وتعازيها لأسر الضحايا، مؤكدة التزامها باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمحاسبة المقصرين وضمان عدم تكرار مثل هذه الكوارث.
من جهته، أصدر نادي مولودية الجزائر بيانًا رسميًا أعلن فيه إلغاء احتفالات التتويج إلى أجل غير مسمى، تعبيرًا عن تضامنه الكامل مع المصابين وعائلات الضحايا، قائلاً: "فرحتنا اليوم ناقصة، بل ممزوجة بالحزن، فقلوبنا مع من سقطوا شهداء حبّ هذا النادي. لن نحتفل والدموع لم تجف بعد."
تساؤلات عن سلامة المنشآت
الحادث أعاد إلى الواجهة نقاشًا قديمًا متجددًا حول مدى جاهزية وسلامة المنشآت الرياضية في الجزائر، خاصة في الملاعب الكبرى التي تشهد حضورًا جماهيريًا كثيفًا. ويعد ملعب 5 يوليو من أعرق الملاعب في البلاد، لكنه تعرض في السنوات الأخيرة لسلسلة من الانتقادات بسبب ضعف الصيانة وتهالك بعض مرافقه.
وحمّل عدد من النشطاء والخبراء المسؤولية إلى الجهات المعنية بصيانة المنشآت الرياضية، متسائلين عن الكيفية التي سُمِح بها لجماهير غفيرة باعتلاء مدرجات يُقال إنها "غير صالحة للاستخدام"، دون وجود إجراءات سلامة كافية.
قوة الأولتراس… ومأساة الولاء
فصيل "حب وعقلية المناصر" يُعد من أبرز الأولتراس في الساحة الكروية الجزائرية، ويتميّز بولائه غير المشروط وبتنظيمه الراقي خلال المباريات. وقد توافد أفراده بالآلاف إلى الملعب، حاملين الرايات واللافتات التي خطّوا عليها شعارات الولاء والانتماء للنادي، غير مدركين أن هذا اليوم سيُسجل في التاريخ لا بصفته يوم التتويج، بل يوم الوداع الحزين.
أحد الناجين من الحادث، وهو شاب في مقتبل العمر، قال بعينين دامعتين: "كنا نغني ونحتفل، ولم نكن نتوقع أن ننقلب فجأة إلى تحت الركام. رأيت إخوتي يسقطون أمامي… هذا يوم لن يُنسى."
وطن بأكمله ينعى أبنائه
انتشرت صور الحادث بسرعة البرق على مواقع التواصل الاجتماعي، وأثارت موجة من الحزن والغضب في الشارع الجزائري. وانهالت رسائل التضامن من أندية رياضية محلية وعربية، ومن شخصيات عامة عبّرت عن صدمتها العميقة، داعية إلى التحقيق الشفاف والمحاسبة الجادة.
كما قررت بعض الأندية الوقوف دقيقة صمت في مباريات قادمة ترحمًا على أرواح الضحايا، في حين تم الإعلان عن تخصيص مواعيد صلاة الغائب في بعض المساجد بالعاصمة.
حقائق بالأرقام: فاجعة في قلب الأرقام
تاريخ الحادث: مساء الجمعة 20 يونيو 2025
المكان: المدرج العلوي في ملعب 5 يوليو – الجزائر العاصمة
عدد الحضور التقريبي في الملعب: أكثر من 60,000 متفرج
عدد الضحايا (حسب البيانات الأولية):
الوفيات المؤكدة: 12 مشجعًا (مع ترجيحات بالزيادة)
المصابين: أكثر من 115، بينهم نحو 30 في حالة حرجة
عدد سيارات الإسعاف التي تدخلت ميدانيًا: 35
مدة توقف المباراة والاحتفالات: إلغاء نهائي لمراسم التتويج
عدد المنشآت الصحية المستقبلة للمصابين: 5 مستشفيات في العاصمة
آخر عملية ترميم رسمية للمدرج المنهار: منذ أكثر من 12 عامًا، دون صيانة شاملة
ردود الفعل العربية والدولية: موجة تعاطف وغضب
توالت ردود الفعل على الحادثة من أندية وشخصيات رياضية في الوطن العربي والعالم، عبّرت جميعها عن تضامنها الكامل مع الجزائر وشعبها.
الاتحاد الجزائري لكرة القدم: أعلن الحداد الرسمي وإيقاف جميع الأنشطة الكروية لثلاثة أيام.
الاتحاد الإفريقي (CAF): أعرب في بيان رسمي عن أسفه الشديد، داعيًا إلى مراجعة معايير السلامة في الملاعب الإفريقية.
الاتحاد الدولي (FIFA): أصدر بيانًا مقتضبًا وصف فيه الحادث بأنه "يوم حزين في تاريخ الكرة العالمية".
نادي الترجي التونسي والأهلي المصري والوداد المغربي: نشروا عبارات عزاء ودعوا جماهيرهم للوقوف دقيقة صمت في المباريات القادمة.
مشاهير الرياضة العالمية: من بينهم رياض محرز وإسلام سليماني، الذين أعادوا نشر صور الضحايا وكتبوا رسائل مؤثرة على حساباتهم الشخصية.
شهادات حيّة من موقع الحادث
"كانوا يغنون... فسقطوا في صمت"
من قلب الفاجعة، تتناثر الشهادات كأنّها صرخات مكتومة لم تجد من يسمعها في الوقت المناسب. أحد الناجين، شاب عشريني يدعى "أيمن.ز"، قال في حديث مرتجف:
"كنت ألوّح بالعلم وأنا أغني من الفرح... وفجأة شعرت بالأرض تتهاوى تحت قدمي، ثم وجدت نفسي بين أجساد ممدّدة، وبعضها لا يتحرك. أخي الأصغر كان بجواري… والآن لا أعلم أين هو."
وفي شهادة أخرى لمشجع يُدعى "خالد.ب"، قال:
"ما زلت أسمع صوت الحديد وهو يتكسر، والناس تصرخ، ثم الصمت... صمت مرعب. لم تكن كارثة فقط، كانت لحظة تشبه النهاية."
وعبّرت إحدى الممرضات المشاركات في الإسعاف الميداني عن صدمتها قائلة:
"لم أرَ هذا الكمّ من الإصابات الجماعية في حياتي. بعضهم كان يحمل قميص النادي على قلبه، كأنه جاء ليحتفل ومات على حبّه."
شهادات تقشعرّ لها الأبدان، وتكشف عن حجم الألم الذي خلفته لحظة سقوط لم تدم سوى ثوانٍ، لكنها ستبقى محفورة في ذاكرة وطنٍ بأكمله.
ملعب 5 يوليو… مجدٌ تحوّل إلى صدى جدران متصدعة
شُيّد ملعب 5 يوليو الأولمبي عام 1972 ليكون جوهرة الملاعب الجزائرية، وصرحًا يستوعب أضخم الأحداث الكروية والسياسية. سمّي بهذا الاسم تخليدًا لذكرى استقلال الجزائر في الخامس من يوليو 1962، واحتضن العديد من البطولات التاريخية، من أبرزها نهائي كأس أمم إفريقيا عام 1990، الذي شهد تتويج الجزائر باللقب على أرضها.
بلغت طاقته الاستيعابية في بداياته أكثر من 100,000 متفرج، قبل أن تُخفض إلى ما يقارب 60,000 لأسباب تتعلق بالسلامة والهيكلة.
رغم تاريخه العريق، تعرض الملعب عبر السنوات إلى إهمال كبير في الصيانة، مع تهالك بعض منشآته، وظهور تصدعات في بنيته الخرسانية، الأمر الذي حذّر منه عدد من الخبراء مرارًا دون اتخاذ إجراءات فعالة.
اليوم، بعد سقوط المدرج العلوي، بات السؤال مطروحًا بإلحاح: هل لا تزال هذه الجوهرة الكروية صالحة لاحتضان الجماهير؟ أم آن الأوان لإعادة النظر جذريًا في معايير الأمان والبنية التحتية في ملاعبنا؟
خاتمة لا تليق بحكاية المجد
كان يُفترض أن يكون هذا اليوم تتويجًا لقصة نجاح رياضية كتبها نادي مولودية الجزائر بعزيمة رجاله، وجماهيره الوفية، غير أن سقوط المدرج كتب نهاية مأساوية ليومٍ كان يجب أن يُكتب فيه المجد فقط.
وفيما لا تزال حصيلة الضحايا غير نهائية، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: من يُعيد لهؤلاء الشباب أعمارهم التي توقفت في لحظة فرح؟ ومن يضمن ألا يتحول الاحتفال القادم إلى كارثة أخرى؟
لقد انتهت مباراة الدوري… لكن مباراة الوعي والمحاسبة لم تبدأ بعد. في وطنٍ لا تنقصه الكفاءات ولا تغيب عنه المآسي، لا بد من وقفة جادة، ترفع راية المسؤولية فوق كل اعتبار. فدماء الضحايا أمانة في أعناق الجميع… لا تُغسل بالبيانات، بل تُخلّد بالعدالة. وبينما تُطوى صفحة موسم رياضي، فُتحت في المقابل صفحة من الحداد والأسى… لا تُغلق إلا بالحقيقة والمساءلة.
ويبقى السؤال مفتوحًا أمام الضمير الوطني: هل ستُكتب نهاية الكوارث بيدٍ حاسمة، أم سيظل الإهمال هو اللاعب الأكثر ثباتًا في ملاعبنا؟
"سلامٌ على من حضروا ليغنّوا للفرح… فرحلوا في صمتٍ مفجع."
"المجد للشهداء… والعار للإهمال."
مصادر موثوقه
1. وكالة الأنباء الجزائرية، "وفاة عدد من المناصرين إثر انهيار مدرج بملعب 5 جويلية"، APS، 20 يونيو 2025، www.aps.dz.
2. الشروق أونلاين، "سقوط مدرج جماهيري في ملعب 5 جويلية يُحوّل التتويج إلى مأساة"، Echorouk Online، 20 يونيو 2025، www.echoroukonline.com.
3. قناة البلاد، "بث مباشر للحظة الانهيار وردود فعل المشجعين"، El Bilad TV، 20 يونيو 2025، www.elbilad.net.
4. وزارة الشباب والرياضة الجزائرية، "بيان حول حادثة ملعب 5 جويلية"، البيانات الرسمية، 21 يونيو 2025، www.mjs.gov.dz.
5. نادي مولودية الجزائر، "بيان الحداد الرسمي بعد الفاجعة"، الصفحة الرسمية على فيسبوك، 21 يونيو 2025، https://www.facebook.com/MCAOfficiel.
6. TSA Algérie، "ملعب 5 جويلية: بين المجد والهيكل المتهالك"، Tout sur l’Algérie، مارس 2023، www.tsa-algerie.dz.
7. Le Quotidien d'Oran، "Structure dangereuse du stade du 5 Juillet : alerte ignorée ?", 2022.
المراجع الختامية (Bibliography)
Agence Presse Service. "Décès de supporters après l'effondrement d'une tribune au stade du 5 Juillet." APS, June 20, 2025. https://www.aps.dz.
Echorouk Online. "Une tragédie au stade du 5 Juillet : le sacre devient deuil." June 20, 2025. https://www.echoroukonline.com.
El Bilad TV. "En direct : l'effondrement des tribunes du stade et les réactions." June 20, 2025. https://www.elbilad.net.
Ministère de la Jeunesse et des Sports (Algérie). "Communiqué officiel concernant l'accident du stade du 5 Juillet." June 21, 2025. https://www.mjs.gov.dz.
MCA Officiel. "Déclaration de deuil après la tragédie du stade." Facebook, June 21, 2025. https://www.facebook.com/MCAOfficiel.
TSA Algérie. "Stade du 5 Juillet : entre nostalgie et danger structurel." March 2023. https://www.tsa-algerie.dz.
Le Quotidien d'Oran. "Structure dangereuse du stade du 5 Juillet : alerte ignorée ?" 2022.
التعليقات الأخيرة