بقلم د/سماح عزازي
في ظلمة ما قبل الفجر، حيث تختلط الظلال والهمسات، كانت الأرض تستيقظ من سباتها العميق، تحمل بين طياتها سرَّ زمنٍ مدفون، يُحاك فيه قدر العالم بصمتٍ لا يسمعه إلا الغراب الأخير. كان الغراب، أسود الريش، عميق النظر، يطير في فضاء لا نهاية له، يحمل بين جناحيه أسرار حكمة غابرة، تتردَّد كصدى في أروقة الذاكرة البشرية.
في بداية العصور، حيث لم يكن للزمان مكان، نشأ ظلٌ عظيمٌ، كُتبت عليه أقدار المخلوقات. ظل الغراب، ظل الحكايات، ظل الحكم التي لا تُروى. وُلد هذا الظل من رحم الصمت، ومن بين أصداف الظلام الأولى، حلّق الغراب حاملاً بين منقاره سرّ الحياة والموت.
حينما كان الإنسان لا يزال في طور البراءة، كان الغراب شاهدًا على العهد الأول بين الأرض والسماء. رأى كيف رسمت يد الخالق خيوط النور والظلام، كيف تناغمت الأمواج مع الرياح في رقصة الحياة الأولى، وكيف حملت الطيور ألحان الغد.
همس الغراب في آذان الأوائل، ينذرهم بأن الحكمة الحقيقية لا تُولد من الضوء فقط، بل من ظلال الألم والخوف أيضاً. وقال: "إنّ لكل نورٍ ظلاً، ولكل حياة موتاً خفياً".
انطلق الغراب في رحلة عبر الزمن، يطير فوق وديان الأحلام وجبال الأساطير، يراقب تطوّر الأمم، يختزن الحكايات في ريشه الأسود، يُحلق فوق شعوب تعاقبت بين النبوّة والخيبة.
سر الغابة القديمة
في غابةٍ مهجورة، حيث تلتقي الأشجار بأنين الريح، وقف الغراب ينظر إلى رموزٍ منقوشة على جذوعها، رموز نسيها البشر، تحمل في طياتها أسرار بداية الكتابة والكلمة.
حكاية الجرذ والحجر
رآى الغراب الجرذ يحاول حمل حجر أكبر منه، رمز الجشع والطموح البشري. وسخر في صمت: "كم من مخلوق يحاول أن يثقل نفسه بأثقال لا يطيقها".
صراع الليل والنهار
شهد الغراب المعركة الأزلية بين الليل والنهار، حيث كلٌ منهما يريد أن يبتلع الآخر. كانت هذه المعركة رمزًا للصراع الداخلي في كل نفس، بين ظلالها ونورها.
الوادي المفقود
حلّق الغراب فوق وادٍ لا تعرفه الخرائط، مكان تاهت فيه الأرواح، حيث يتلاقى الماضي بالمستقبل في لحظةٍ واحدة. هناك، فهم أن الزمان ليس خطاً بل دائرة تتكرر بلا نهاية.
صوت الحكيم الصامت
سمع الغراب صوتاً عميقاً في أعماق الوادي، صوت الحكيم الذي لا يتكلم، بل يصمت حتى يفهمه كل من يبحث عن الحقيقة. هذا الصوت كان نبض الأرض نفسه. بين الحبر والدم
وقف الغراب أمام أوراق قديمة مغطاة بالحبر الأحمر، دماء حكاياتٍ لم تُروَ بعد، دماء أنبياء وقادة عانوا من الجهل والخذلان. و صدى النبوءات رأى الغراب كيف تتردد نبوءات قديمة في ألسنة الأطفال، كيف تُنسج خيوط المستقبل في حكايات الأجداد، وكيف تُطوى هذه النبوءات في صفحات الكتب التي لا تُقرأ.
المدينة المعلقة
حلّق فوق مدينة معلقة بين السماء والأرض، حيث تلتقي الغيوم بمآذن لا تعرف السقوط، مدينة كانت شاهدة على ظهور الديانات الكبرى، وأسرار الأديان المحجوبة. و السيف الذي لم يُسقَط رأى الغراب سيفًا مرفوعًا لا يسقط، رمز القوة التي لا تُهزم، لكنها أيضًا تهدد كل من يمد يده إليه بلا حكمة.
سمع الغراب همسات الحجارة، تقول قصص معاركٍ قديمة، عن دموع تسقط من جدران القلاع، وعن صمت المنتصرين والخاسرين. توقف الغراب تحت شجرة ضخمة، تتدلى من أغصانها أوراق تحمل أسماء وأقدار، شجرة الزمن التي تظلل على كل ما هو مقدر ومكتوب شجرة النبوءة
رصد الغراب طيف نور مخفي بين الظلال، نور لا يُرى إلا بقلبٍ نقي، نور ينذر بانتصار الحكمة على الجهل. و راقب الغراب رقص الريح بين الجبال، رمز التغير المستمر، كيف تُغني الأرض بألحان جديدة كل يوم، رغم كل الحروب والدمار.
التقى الغراب بطائر الفجر الأخير، رمز البدايات التي لا تنتهي، قال له: "كل نهاية هي بداية جديدة، وكل سرّ يُكشف في وقته
سمع الغراب همسات أجداد قد رحلوا، يحذرون من نسيان الجذور، ويطلبون أن تُحكى الحكايات كما هي، بلا تحريف ولا نسيان.
جناح الحكمة
وأخيرًا، مد الغراب جناحيه ليطير أعلى، فوق كل ما يُرى ويُسمع، يحمل حكمة الأزمنة، ووعود الأرض التي لم تنكسر، ليكون شاهدًا وصديقًا لكل من يسعى للحق. في عمق الصحراء، حيث الأرض تلتهم الأفق ولا شيء سوى الشمس الحارقة والسماء القاسية، ينبعث من بين الرمال صدى قصة قديمة، قصة النبع الأحمر. ليس مجرد ماء ينبع من بين الحجارة، بل كان نبعًا يحمل في طياته دماء الحكايات، دماء البشرية التي عبرت، ودماء الأقدار التي تلاقت، ودماء الظلم والاحتلال التي لم تجف بعد.
تبدأ القصة حينما اجتمعت قبائل العرب في واحة النبع الأحمر، هناك حيث الماء نادر والظمأ قاتل، ليشهدوا معركة لم تكن مجرد صراع على البقاء، بل كانت اختبارًا للروح، اختبارًا للإيمان، ولإرادة الأرض التي تمزقت بين أقدام الغزاة والمقاومين.
كانت الأرض قد عاشت لقرون تحت سماء واحدة، لكن ذلك اليوم تغيّر كل شيء. النبع، الذي كان ينبع ماءً صافياً، تحول إلى نبعٍ دموي، تلوثت مياهه بالدماء واحتضن أحلامًا غابت في ظلال الصحراء القاسية. أصوات المعركة كانت مثل رياح العاصفة التي تلتهم الرمل، ولكن وسط ذلك، كان هناك همس الصمت، همس الأرض التي لا تنسى.
في لحظة الاحتدام، كان الرجال والنساء حول النبع يتشبثون بالحياة، ولكن الحياة هناك كانت أكثر من مجرد بقائهم على قيدها. كانت حياة النضال، حياة القيم التي تفوق الجسد، حياة الروح التي لا تقهرها رصاصات الغدر ولا نيران الحقد.
سقطت الأعلام، وارتفعت صرخات الألم، وتحطمت أوهام السيطرة، لكن النبع لم يتوقف عن الجريان، لم يتوقف عن سرد قصته. هو شاهد حي على مأساة لم تكن تُروى بالبساطة التي نتصورها، بل كانت قصة دم وعزيمة وأمل في عتمة الليالي القاحلة.
بين أصوات الريح والحجارة، تنقلت الأرواح بين الموت والحياة، بين الأمل واليأس، وكانت هناك لحظات من صمت مطبق، حيث ينحني الزمن نفسه ليتذكر ما حدث، لحظات تتسرب فيها الذكريات كالمياه العذبة بين صخور الذكرى.
كان النهار يميل إلى المغيب حين بدأت مياه النبع المقدس تفقد صفاءها. لطالما اعتبرته الغربان عين الحياة، مصدر الحكمة، ومرآة الذاكرة الأولى. كان النبع في قلب الغابة، تحفه أشجار من نوعٍ لا يُزهر إلا في حضور الريش، وتحيط به تعاويذ محفورة على صخور تعود إلى عهد أروان الأول، مؤسس المملكة. لكنّ هذا اليوم لم يكن كباقي الأيام.
كان النبع المقدّس يقبع في قلب الوادي كجوهرة نسيها الزمن بين أضلاع الأرض. ماءه لا يُشرب، بل يُبصر. لم يكن رقراقًا كالماء العادي، بل تهادى بلون الزجاج الشفّاف الذي يخز العيون بنقائه. كانت الغربان تتقاطر إليه في الصباحات الباردة، لا لتروي عطش الجسد، بل لتغتسل أرواحها في سكونه السرّي.
قال أروان ذات مساء:
"النبع هو مرآتنا، من لوّثه فقد لوّث صورته فينا."
لم تكن تلك نبوءة، بل تحذيرًا حملته الرياح مرارًا، ولكنها سقطت كما يسقط الريش الرمادي في عتمة الغابات، لا يراه أحد، ولا يلتقطه أحد.
في أحد الأيام التي انكفأت فيها الشمس كأنها ترفض رؤية الأرض، انتشرت بين الغربان رائحة غريبة، رائحة صدأٍ لم يعرفوه من قبل، تُشبه الدم حين يبيت في الحلق، لا يُبلَع ولا يُلفَظ. كانت الرائحة تأتي من جهة النبع. هرعت الفرق الطائرة من كل اتجاه، يقودها أروان بصدر مفتوح على الفجيعة.
هناك… في النبع، رأوا الماء وقد انقلب لونه. لم يعد النبع نبعًا. صار دمًا.
التلوث الأول ظهرت البقعة الحمراء في وسط النبع كما تظهر ندبة على جبين نقي. لم تكن دمًا، ولا طينًا، بل شيئًا ثالثًا، كأنه أثر جريمة لا تُرى. تجمع الحكماء حوله، عيونهم تتساءل دون كلمات. كانت الريح ساكنة على نحو مريب، والطيور الأخرى لاذت بالصمت.
مجلس الطوارئ اجتمع مجلس الريش الثلاثي: الأسود، الرمادي، والأبيض. الغراب الأكبر، ذو الريش الفضي المائل للسواد، قال بنبرة حاسمة: "النبع تكلّم. من لوّثه؟ ولماذا الآن؟" تبادل الحضور نظرات قلقة. لقد جرت العادة أن النبع لا يُمس إلا في أوقات الكوارث الكبرى أو لحظة التحول.
اتهام خفي بدأت الشكوك تتجه نحو الغربان التي اقتربت من حدود البشر في الآونة الأخيرة. أُثيرت أسماء، وسرّبت أخبار، وكأن صوتًا خفيًا يدفع بالمملكة نحو انقسام جديد. قال أحدهم: "النبع لا يكذب... والبشر لا يفهمون الحُرُمات."
حكاية الغربان القديمة
حكت الغربان العجائز عن نبوءة قديمة تقول إن يومًا سيأتي فيه النبع يتلون بلون الدم، ويبدأ كل شيء في التغير. تساءل الجميع: هل هذا هو اليوم؟ وهل ما يجري هو عقاب أم نذير؟
لقاء في الظلال
أُرسل الغراب الأخير، الذي طال نفيه إلى تخوم الغابة، لاستقصاء الأمر. وجد أثر أقدام بشرية عند ضفة النبع. آثار رماد، وقطعة قماش مشبعة برائحة دخان. كان ذلك كافيًا لزرع الرعب في القلوب.
رد فعل الغربان
اشتعلت المملكة. نُكّست الأجنحة، ورفرفت الأعلام السوداء فوق الأعشاش. نُظّمت طقوس تطهير، وقُرئت التعويذات القديمة. لكن الطقس لم يُنقِ الماء، ولا أزال اللون الأحمر.
انشقاق داخلي بدأت أصواتٌ ترتفع داخل المملكة تطالب بالتحرك ضد البشر. بينما حاول آخرون التهدئة قائلين إن ما حدث قد يكون اختلالًا كونيًا، أو رسالة من الظلال القديمة. لكن الصدع بدأ يظهر في أجنحة الجماعة.
أول صدام خرجت مجموعة من الغربان إلى حافة القرية البشرية المجاورة. طاروا فوق البيوت، وأطلقوا صرخات حادة، أسقطوا حجارة، وتركوا ريشًا محترقًا كعلامة إنذار. لم يردّ البشر، لكنهم أعدّوا شِباكًا.
مجلس النبوءة المصغّر دُعي عدد من العرافين الغربان إلى النبع في الليل. ألقوا حجارة في الماء، وانتظروا ما سيطفو. ظهرت ورقة شجرة محترقة، وريشة مبللة بالدم، وعين زجاجية. كانت العلامات واضحة: "القادم أسود."
بداية التوتر المفتوح في اليوم التالي، وُجد أحد صغار الغربان مقتولًا قرب النبع، محاطًا بطلاسم مرسومة بالرماد. لم يتضح إن كان القاتل بشرًا أم غربانًا. لكن الرسالة كانت وصلت:
لم يعد هناك مكان للسكوت
ما قبل البداية، لم يكن الماء.
وما بعد النبوءة، لم يبقَ غير النبع.
كان سرًا تجلى في هيئة سائلة،
وكانت الغربان تعرف أن لكلّ قطرة فيه
صدى لا يُسمع إلا بالقلب.
في فجرٍ غريب،
بدت فيه الشمس كأنها تستجدي الشروق،
استيقظت مملكة الغربان
على زفرة خرساء تسللت من باطن الأرض،
كأن قلبًا عتيقًا قد انكسر في جوف الصخور.
سرت رعشة في أجنحة الحراس الذين يحيطون بالنبع،
ولم يكونوا بحاجة إلى نداء،
فالنبع إذا تأوّه، تهرع المملكة كلها
النبع…
عين الروح، قلب المملكة، ولسان الذاكرة.
فيه ترى الغربان وجوه أسلافها، وتسمع صمت الموتى،
وتغسل خطاياها بالتماهي مع النقاء.
لم يكن مكانًا.
كان كائنًا.
عندما وصلت الغربان،
كانت الكارثة قد وُلدت كاملة.
النبع… لم يعد نبعًا.
لم يكن ماءً، لم يكن نورًا.
كان سائلًا أحمرَ، قانِيًا،
كأن الدم خرج من فم الأرض.
صرخ أحد الحراس:
"لقد نزف النبع!"
لكن أروان، سيد الحكمة والريش الأبيض، لم يصرخ.
كان يحدّق في السطح المائج بلون الدم،
ورأى شيئًا لم يره أحد…
رأى صورتَه تمزّقها دوائر الماء،
رأى الريش الأبيض يتحوّل إلى رماد.
"هذا ليس نزفًا، بل نبوءة."
قالها أروان، وصوته مبللٌ بالفزع.
تقدّمت إحدى الغربان الرمادية،
كانت تُدعى ثايا، من نسلٍ قديم لا يحبّ أروان كثيرًا،
وقالت بنبرة فيها من التشفّي ما يفضح الظنون:
"نبوءتك فشلت، يا حامل الحكمة.
النبع كان مقدّسًا، نعم… لكن من قال إنه خالد؟
من قال إنه لا يُدَنَّس؟
ربما آن أوان الحقيقة التي نخافها جميعًا."
صمتٌ.
ثم دوّى صوت من جهة الغرب،
كان الغراب الراصد قد عاد من تخوم مملكة البشر،
وحمل معه الخبر الذي سيغيّر كل شيء:
"رأيتهم…
بشرٌ غرباء،
يحفرون الأرض،
يصبّون موادًا سوداء في الجداول،
ويبنون آلات تنفث الدخان والوحل…
النبع لم ينزف وحده،
النبع صرخ، ونحن لم نسمع."
اهتزّ المجمع الغرابي الكبير.
اجتمع حكماء الريش،
وكُسرت التعاويذ القديمة التي كانت تُحصّن النبع.
صعد أروان إلى صخرة الذاكرة، حيث لا يُصعد إلا وقت الأزمات العظمى.
مد جناحيه، وقال:
"أيتها الغربان…
لقد نُدب النبع،
وهذا إيذانٌ بتصدع الميثاق القديم بيننا وبين الأرض.
لكن الألم ليس من الخارج فقط…
بل فينا نحن.
نحن من سمحنا للصمت أن ينام،
للظلّ أن يتكلم،
وللبشر أن يقتربوا."
هنا تبدأ الانقسامات:
ثايا تدعو للردّ العسكري.
أروان يدعو للبحث في السبب الأعمق…
"ما الذي كسر السِّر؟ ومن الذي فتح الباب؟"
وتبدأ الشكوك تتسلل:
هل من الغربان من خان الميثاق؟
هل من بيننا من تآمر مع بشر الظلّ؟
ومن هو الغراب الذي لم يكن يومًا منّا، لكنه لبس ريشنا؟
ومن الذي رأى الكارثة قادمة… وسكت؟
في الليلة التالية، انطفأت أحجار السكينة.
تلك الأحجار التي وُضعت حول النبع
منذ عصور التأسيس الأولى،
والتي قيل إن فيها نَفَسَ الغراب الأول…
لم تعد تضيء.
كان ذلك أول دليلٍ على أن الميثاق الغرابيّ العظيم
قد تَصدّع. ولم يكن هناك أسوأ من نكث العهد،
إلا نكران أن العهد كان يومًا موجودًا.
في مجمع الريش، وقف أروان مُثقلَ الأجنحة.
لم تكن الكارثة فقط في النبع،
بل في العيون التي باتت تنظر إليه ككاهنٍ خَرِف.
قال أروان بصوتٍ عميق:
"النبع نزف لأنه تَذكّر.
تذكّر دم قابيل،
تذكّر موت الغراب الأول الذي دفن السرّ في الأرض.
تذكّرنا نحن، حين نسينا أنفسنا."
لكن ثايا قاطعته:
"لا وقت للتأمل يا أروان،
النبع لُوِّث، والأعداء يقتربون،
والمملكة تنتظر مَن يحمل السيف، لا مَن ينوح على الرماد."
بدأت الريشات تتطاير في القاعة،
وتحوّل الخلاف إلى اشتباكٍ رمزيّ.
الريش الأسود يصفّق لثايا.
الريش الرمادي يتأرجح.
أما أصحاب الريش الأبيض، فقد خفضوا أعينهم،
كأنهم رأوا ما لم يُقَل بعد.
في الزاوية، كان الراوي – الغراب الأخير من سلالة البياض – يدوّن كل شيء. لم يتدخل.
فهو يعلم، كما علم أسلافه،
أن الكلمة حين تُقتل…
تولد الحرب.
ومع شروق يوم جديد،
أُعلن للمرة الأولى منذ تأسيس المملكة
عن تشكيل "مجلس الطيران الحاسم"،
وهو هيئة طارئة تقودها ثايا،
وتُعنى بردّ العدوان البشري المحتمل.
لكن خلف الستار،
كانت هناك همسات عن غرابٍ مجهول
رُؤي ليلًا عند أطراف النبع قبل لونه الأحمر.
غراب لا يُشبه أحدًا،
ريشه مكسوّ بلونٍ لا يُدرَك…
بين الرمادي والأسود، لكن لا ينتمي لأيٍّ منهما.
قالت العجوز مورلا،
حارسة الأساطير:
"ذلك الغراب… ليس من هنا.
إنه من ما وراء السِّر،
من أرضٍ لا يعرفها حتى أروان."
وبينما تتأهب المملكة للمواجهة،
كان الراوي يدوّن في ظلال صخرته:
"النبع لم ينزف فقط، بل كشف المستور.الماء لا يكذب،
وكلّ مَن نظر في دمه… رأى نفسه، وارتجف."
رائع جدًا. إليك عشرة مشاهد إضافية تُثري الفصل الخامس "حادثة النبع الأحمر". حرصت على التنويع بين المشاهد الرمزية، الحوارية، والحركية، مع تصعيد ملحمي وتسلسل منطقي، تمهيدًا لخاتمة شعائرية كبرى.
صوت في الحلم
في الليل، سمع بعض صغار الغربان صراخًا ينبعث من قاع النبع.
صوت أنثوي ممزوج بحشرجة… يهمس:
"النبع شرب من دم غير مخلوق بعد."
استيقظ الجميع فزعًا، وذُكر أن تلك الأصوات لم تكن رؤى، بل كانت "تذكارات"، وهي رؤى يرسلها النبع لمن اختارهم.
ريشة مشقوقة
عُثر على ريشة سوداء مشقوقة بالطول عند حافة النبع.
علامةٌ نادرة تُعرف في التقاليد القديمة بـ "نقمة الغراب الأول".
قال أروان:
"حين تنشق الريشة، تنشق الذاكرة… ويتسلل المنسيّ بيننا."
الغراب الرمادي الحارس
يُرسل مجلس الطيران الحاسم الحارس "غارمول" لمراقبة محيط النبع.
في الليل، يسمع همسات من الرياح:
"من لا يعرف أصله، لا يستحق جنحه."
في الفجر، اختفى غارمول… ولم يُعثَر إلا على ظله محفورًا في الأرض.
مجادلة بين أروان وثايا
في مشهد محتدم، يتواجه الحكيم أروان والمحاربة ثايا أمام الحشود.
ثايا تصرخ:
"الحكمة لم تحمِنا، أما آن للريش أن يتحرك؟"
يرد أروان بهدوء قاتل:
"حين تصير الحكمة سلاحًا، نُصبح نحن العدو."
وينفض المجلس دون حسم.
طقوس تطهير
تُقام شعائر قديمة لتطهير النبع، تُعرف بـ "زفرة البياض".
يُغطّس ثلاثة من الغربان البيض في النبع…
فيخرج اثنان، والثالث ذابت عيونه.
قالت الكاهنة مورلا:
"الماء لا يغسل من حمل الخطيئة داخله."
لقاء الغراب الأخير بكائن غريب
الراوي يرى طيفًا يشبه غرابًا بلا ريش، يُدعى "نواه الظلّ".
يقول له:
"من لوّث النبع، لم يأتِ من الأرض… بل من صدع في السماء."
ثم يختفي، تاركًا غبارًا أزرق لا يلتصق بأي جناح.
تمرد الريش الرمادي
الريش الرمادي، الفئة الوسطى، تبدأ بالتململ.
ترى أن الصراع بين الأسود والأبيض دمّر المملكة.
يصدر بيان:
"لن نكون خلفيةً لألوانهم، سنبني طريقنا الرمادي."
الغراب المجروح
يُعثر على غراب غريب على حافة المملكة،
مجروحًا وذيله مفقود.
يهمس قبل أن يموت:
"النبع ينزف من الداخل… من داخل المملكة نفسها."
ثم تنفجر عينه اليسرى في ومضة زرقاء.
الحجر الذي بكى
في أعماق الكهف القديم، وُجد حجر أزرق يُقال
إنه نحت من صرخة أول غراب دُفن.
في تلك الليلة، نزلت منه قطرة ماء…
قال أروان:
"حين يبكي الحجر، فاعلم أن الزمان قد انكسر."
الطقوس الكبرى – نبوءة من دم النبع
في حضرة القمر الأحمر، دعا أروان وموكبه إلى طقوس "عين الريش"،
وهي أقدم طقوس المملكة، لا تُقام إلا إذا تهدد الوجود نفسه.
وُضع وعاء من دم النبع المتجلط في صحن من عظم أول غراب نُفي،
ثم حوّم أروان فوقه، مرددًا:
"أيها الزمن، افتح شقوقك، ودعنا نرى ما يُخبّئ الظلّ للضوء."
تجمدت اللحظة، وشاهد الجميع رؤيا على صفحة الدم:
مدينة من دخان،
طفل له جناح وذيل بشري،
غراب يسقط من السماء محترقًا،
وأصوات تصرخ:
"الخاتمة لا تبدأ من النهاية… بل من أول من دفن السرّ."
سقط أروان بعد ذلك، غائبًا عن الوعي،
وتركت مورلا كلمتها الأخيرة:
"النبع لم يُلوَّث… بل استُدعِي، ليقول لنا: لقد بدأتم النهاية."
نبوءة الجناح المتآكل
أحد الحراس يكتشف غرابًا بجناح متآكل بشكل غير طبيعي، كأنه تُرك ليتعفن وهو حي.
قبل أن يلفظ أنفاسه، نطق كلمات غريبة بلغة منسية:
"حين تُجرح أجنحة الحُماة، يعود من نُفيَ بلا أثر."
نشوب "ليلة السُّخام"
اندلعت حرائق غامضة حول ضفاف النبع، وغُطيت السماء بسخام أسود.
سُميت تلك الليلة بـ"ليلة السُّخام"،
قال أروان:
"النبع لا يحترق، إنما من حوله يُمحى ليُخفى سره."
ظهور الغراب ذو المنقار المعكوس
ظهر في الأطراف غراب لا يشبه الباقين، له منقار مقلوب للداخل.
قال:
"أنا صدى الكلمة الأولى... والنبع نطق باسمي حين سُفِكَ دمه."
اختفى فورًا، ولم تُترك أي آثار.
كسر مرآة الظلّ
في ممر سري تحت الجذور، كُسرت "مرآة الظلّ" القديمة،
وهي مرآة عاكسة لما لا يُرى.
قيل إنها تنكسر فقط إذا عبر الزمان شخص ليس من وقته.
طيور النحيب
ظهرت فجأة أسراب طيور سوداء غير غرابية، تُصدر نحيبًا بشريًا.
جابت سماء المملكة ثلاث ليالٍ، ثم اختفت.
قالت مورلا:
"تلك أرواح الغربان الميتة… تُحذّر الأحياء من خطأهم."
انشقاق العرش الحجري
العرش القديم لمملكة الغربان – والمحفور في الصخر – انشطر من المنتصف.
كُتب على شقّه الداخلي بالريش الأحمر:
"من جلس على الريش، نسي أنه طائر."
سقوط جناح في الماء
جناح أسود مقطوع سقط من السماء واستقر في قلب النبع.
لم يُعرف لصاحبه اسم ولا أثر.
تحوّل الماء من الأحمر القاني إلى الأحمر القاتم كالحبر.
وهمس أروان:
"النبع يكتب... بدم لا نعرف صاحبه."
صمت الأعشاش
كل أعشاش المملكة أصبحت صامتة.
لا صوت للفراخ، ولا نداءات بين العش والعش.
الصمت شمل الجميع، حتى الريح بدت كأنها تتنفس بحذر.
النبع يعكس وجوهًا ليست من هذا العالم
في لحظة سكون، نظر الجميع إلى النبع… فرأوا وجوهًا لا تشبههم.
وجوه لها عيون بشرية وملامح مكسورة.
قال أحدهم:
"النبع لا يعكس من أمامه… بل من يترصّد خلف الزمن."
مشهد التنبؤ – شعائر الدم والريش
جلسة التنبؤ الكبرى في قاعة الحضور القديم، حيث تُعلّق الأجنحة العتيقة وتُشعل نيران الطقوس، وقف الغراب الأخير في منتصف دائرة من الحكماء. وُضعت قطرات من ماء النبع الملوث في وعاء حجري، وأسقطت فيه ريشة من كل سلالة. ارتفع بخار غامض، ظهرت من خلاله رؤى: بشرٌ يقطعون الأشجار، غربانٌ تطير نحو شمس محترقة، وصرخة تتردد: "سيبدأ السقوط من الماء
أقيمت أخيرًا "جلسة التنبؤ الكبرى" تحت شجرة السُّهد،
حضرتها كل فصائل المملكة.
في منتصف الدائرة، وُضِع "إناء الخلوة"،
يحتوي ماء النبع المخلوط بريش من الغراب الأول وبقايا دم الحارس المفقود.
بدأت الكاهنة مورلا بإنشاد تراتيل "زمن ما قبل الطيران"،
ثم نفخت في ريشة بيضاء تحوّلت إلى رماد.
بدأ الدم في الإناء يتصاعد كأنه دخانٌ من جرح،
ثم ظهر على سطحه المشهد التالي:
سماء من نار
غراب ينزع جناحه بيده
طفل يولد بريش من نار لا تطفأ
وشبح يهمس:
"من شرب من النبع، سيُنزف منه."
سقطت مورلا أرضًا، وانكسر منقارها،
وقالت بصوت مبحوح:
"الدم لا يتكلم عبثًا... والنبوءة بدأت تسيل."
سقطت القطرة الأخيرة من الدم، واختفى البخار. لم يتكلم أحد، لكن الجميع أدرك: لقد بدأت الحقبة الدامية
في كل قطرة دم سقطت على هذه الأرض، نبعٌ جديد من العزيمة يولد، وماء جديد يعيد الحياة لروحنا التي لا تعرف الاستسلام.
الأرض لا تنسى دماء أبنائها، حتى وإن حاول الظلام أن يطمسها، تبقى الأنهار تجري، تروي قصة النضال والصمود.
النبع الأحمر ليس مجرد مكان، بل هو رمز صمود، هو قصة أمة تتجدد، لا تُقهر، لا تُنسى.
في عمق كل دماءٍ سالت، هناك بذرة سلام تنتظر من يزرعها.
لا ينكسر التاريخ إلا بإرادة الشعوب التي تختار أن تكتب سلامها بيدها.
النار التي تحرق الأرض تلد في النهاية رماداً خصباً، لكن السلام لا ينبت إلا من رحم الرحمة
في عمق الظلام، يكمن النور الذي لا يراه إلا من يجرؤ على النظر بعيون الروح.
الحكمة ليست معرفة ما هو مكتوب، بل فهم ما بين السطور.
لا تخف من الظل، فهو رفيق الضوء منذ الأزل.
هذا الفصل ليس مجرد سرد قصة غراب أسطوري، بل هو رحلة في أعماق النفس الإنسانية، في تاريخ الحكمة والخوف، في توازن النور والظلام.
التعليقات الأخيرة